عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – في مدرسة مار يوسف عينطوره


عظات

 

    “ولمّا قام يوسف من النّوم، فعل كما أمره ملاك الرّب”

                                                        (متى 1: 24)

 

1. ما أوحاه الملاك في الحلم ليوسف، يكمّل مضمون البشارة لمريم. وما أجابته هي بالكلام: “أنا أمة الرّب، فليكن لي بحسب قولك” (لو 1: 28)، أجابه يوسف بالأفعال: “فلمّا نهض من النّوم، صنع كما أمره ملاك الرّب” (متى 1: 24). جوابهما واحد وهو طاعة الإيمان. بهذه الفضيلة نقبل في عقلنا ما يوحيه الله ويأمر به، ونخضع له بالإرادة، ونجسّده في الأفعال. إنّنا نلتمس من الله، بشفاعة القدّيس يوسف، أن ينعم علينا بهذه الفضيلة، فلا يكون إيماننا مجرّد معرفة، ولا يكون خاليًا من الأفعال. “فالإيمان، على ما يقول القدّيس يعقوب الرّسول، من دون الأعمال ميت، مثل الجسد بلا روح”.

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة ونحن نحيي عيد القدّيس يوسف، شفيع هذا الصّرح التّربوي الرّفيع في عينطوره العزيزة. وإنّا بذلك نواصل تقليدًا عريقًا جرى عليه أسلافي البطاركة سعيدو الذّكر. فبكركي حريصة على المدرسة الكاثوليكيّة، وفي طليعتها مدرسة القدّيس يوسف عينطوره، لأنّ في هذه المدارس تُصقل شخصيّة التّلميذ، بكلّ أبعادها العلميّة والرّوحيّة والأخلاقيّة والوطنيّة. فإنّي أهنّئ بالعيد أسرة هذه المدرسة: رئيسها الأب سمعان جميل والآباء والإداريين والمعلّمين والموظّفين والأهالي والطلاب والقدامى والأصدقاء. كما أحيّي وأهنّئ الرّئيس الإقليمي للآباء اللعازريّين الأب زياد حدّاد، وسائر الآباء، وبخاصّة اؤلئك الّذين تعاقبوا على رئاسة هذه المدرسة، واللذين تفانوا في خدمة التّربية. نسأل الله، بشفاعة القدّيس يوسف المربّي بامتياز، أن يساند كل العاملين والعاملات في حقل التّعليم والتّربية بإيجاد أفضل السّبل التّربويّة لأجيال اليوم الّذين يواجهون العديد من التحدّيات.

 نصلّي من أجل حماية هذه المدرسة ومدارسنا الكاثوليكيّة في هذه المرحلة الإقتصاديّة والمعيشيّة الصّعبة الّتي يمرّ فيها شعبنا، وقد بات في ثلثه تحت مستوى الفقر، وثلثُ شبابنا في حالة البطالة والعوز.

3. أوحى ملاك الرّب ليوسف في الحلم أنّ “المولود في مريم خطّيبته إنّما هو من الرّوح القدس”. فهي امرأته، وهو زوجها والأب الشّرعي لمولودها، وعليه بالتّالي أن يأخذها إلى بيته. فيوسف كان مرتابًا حيال حَبَل مريم السرّي، وظنّ أنّه خارج هذا التّصميم الإلهي، وأنّ لا مكان له فيه، ففكّر بتخلية مريم سرًا، خلافًا لما تقتضيه شريعة الطّلاق، حفاظًا على كرامتها وقدسيّة الحدث.

بدّد الملاك شكّ يوسف واضطرابه، وكشف له دوره في تصميم الله الخلاصي: فهو شريك مريم في سرّ تجسّد ابن الله، بحكم زواجهما البتولي، كمرتكز قانوني لأبوّة يوسف وأمومة مريم، ولسلطتهما الوالديّة على يسوع، ولمهمّة تربيته المشتركة. وهكذا عرف أهل النّاصرة أنّ يسوع هو “ابن يوسف النجّار، وأمّه تدعى مريم” (متى 13: 55). لقد عهد الله إلى يوسف بحراسة أثمن كنوزه، وبحراسة الأسرار الخلاصيّة، على ما قال الطّوباوي البابا بيوس التّاسع.

4. يريد الله أن يكون كلّ إنسان شريكًا ومعاونًا له، مثل مريم ويوسف، في تحقيق تدبيره الخلاصي، على أن يسأل كل واحد وواحدة منّا الله دائمًا، بالصّلاة والتأمّل والإصغاء، عمّا يريد منه في الحياة، وعن دوره في هذا التّدبير. تظهر لنا هنا خطورة واجب الوالدين في تربية أولادهم الّذي ينبثق من مسؤوليّة إعطائهم الحياة، ومن كون الأولاد هبة ثمينة من الله للعائلة والمجتمع والكنيسة والدّولة. إنّه واجب أساسي وجوهري، لا غنى عنه ولا بديل. ومن حقّهم بالتّالي اختيار المدرسة الّتي يعتبرونها الأفضل لتعليم أولادهم وإكمال تربيتهم. ما يقتضي أن تظلّ مدارسنا في متناول قدراتهم وعلى قدر تطلّعاتهم، ومتطلّبات عالم اليوم وتقدّمه واكتشافاته المذهلة. وينتظرون من المجتمع المدني أن يوفّر سلامة البيئة البشريّة والطّبيعيّة، ويصون الأخلاق العامّة. فلا يجد التّلامذة في مجتمعهم عكس ما يتربّون عليه في مدرستهم. وينتظرون من الدّولة تأمين تعليم شامل ذي جودة عالية، سواء في المدارس الرسميّة أم الخاصّة، وعن سنّ القوانين ووضع المناهج التربويّة للتعليم، والسّهر على كفاءة المعلّمين ومستوى الدّروس وصحّة التّلامذة.

 5. وبما أنّ المدرسة الخاصّة كالرّسميّة هي ذات منفعة عامّة، فمن واجب الدّولة أن تسهم في دعم أهالي التّلامذة الّذين اختاروها لأولادهم. وبخاصّة بعد صدور القانون 46/2017 الخاص بسلسلة الرّتب والرّواتب، إذ بات على الدّولة أن تتحمّل كلفة الدّرجات السّت للمعلّمين، فيما المدرسة تتحمّل السّلسلة وفقًا للملحق 17، على أن تُضبط زيادات الأقساط بموجب القانون 515/96، وفقًا لم قرّره اتّحاد المؤسّسات التّربويّة، في الإجتماع الّذي عُقد في بكركي في أوّل شباط الماضي، وتمثّلت فيه جميع المدارس الخاصّة والمجّانيّة، المسيحيّة والإسلاميّة، وأصدر بيانًا سُلّم إلى المسؤولين في الدّولة.

6. لا تستطيع المدارس بل لا تريدُ زيادة الأقساط بنتيجة القانون 46، لأنّها ستكون مرهقة للغاية على أهالي التّلاميذ. وإذا تمكّن بعضهم من تحمّلها، فلا تريد المدرسة الكاثوليكيّة أن تكون حكرًا على الأغنياء والقادرين، وإلاّ فقدت رسالتها ومبرّر وجودها. فمن واجب الدّولة أن تحافظ على المدرسة الخاصّة، لما لها من دور أساسي في تثقيف الأجيال اللبنانيّة ثقافة عالية، وأن تتحمّل واجب تأمين كلفة الدّرجات السّت.

وإذا لم تقم الدّولة بواجبها هذا، بالرّغم من الدّراسات العلميّة والرّقميّة الّتي قُدّمت إلى المرجعيّات الرّسميّة، تكون مسؤولة عن إقفال العديد من مدارسنا، ولاسيّما في الجبل والأطراف وتلك المحدودة العدد في السّاحل. ما يعني زجّ الكثير من الإداريين والمعلّمين والموظّفين في آفة البطالة مع كوارثها الإجتماعيّة والمعيشيّة؛ وما يعني أيضًا إرغام الأهالي على هجرة بيوتهم وممتلكاتهم إلى السّاحل مع ما يقتضي ذلك من تضحيات وإفراغ للقرى والبلدات الجبليّة والأطراف. ونتساءل: هل يدرك المسؤولون السّياسيّون عندنا، المأخوذون بسكرة الإنتخابات والوعود، خطورة هذه الأزمة التّربويّة والإجتماعيّة الآتية، ويتداركونها قبل فوات الأوان؟

لقد بدأت تصلنا الى الصرح البطريركي بكلّ أسف قرارات إقفال بعض المدارس في الجبل والأطراف، وإنذارات من غيرها. من السّهل ربّما أن ينضمّ بعض التّلامذة إلى مدارس أخرى مع صعوباتها، ولكن أين يذهب المعلّمون والموظّفون؟ كنّا نأمل من الحكومة أن تدرج في مشروع الموازنة بندًا يختصّ بتحمّلها كلفة الدّرجات السّت، فكانت خيبة الأمل. أمّا تقسيط هذه الدّرجات فلا ينفي رفع الأقساط تدريجيًا مع تضخّمها سنة بعد سنة. وتبقى الأزمة التّربويّة والإجتماعيّة هي هي بل تكبر في حجمها.

7. إنّنا نوجّه تحيّة شكر للدّول الإحدى والأربعين الّتي شاركت الخميس الماضي في مؤتمر روما لتقوية قدرات الجّيش والأجهزة الأمنيّة في لبنان. وقد نظّمته مشكورة إيطاليا والأمم المتّحدة. وطالبت بالمقابل بالعودة إلى الحوار الوطني بشأن الاستراتيجيّة الدّفاعيّة والمحافظة على النأي بالنّفس، وتفعيل عمل المؤسّسات، وإجراء الإنتخابات النّيابيّة وفقًا للمعايير الدّوليّة. ونرجو نجاح مؤتمر باريس الّذي سينعقد في السّادس من نيسان المقبل من أجل تعزيز النّهوض الإقتصادي المأزوم، ومؤتمر بروكسيل في الخامس والعشرين من نيسان لتخفيف أعباء وجود مليون وسبعماية ألف نازح سوري عندنا. والكل يهدف إلى توطيد الإستقرار في لبنان. ومعلوم أنّ المساعدات الماليّة هي مزيد من الإستدانة وتشترط وجود مشاريع مدروسة بشكل علمي واضح، فيما الدّين العام يقارب حاليًا الثّمانين مليار دولار أميركي، فضلاً عن الدّيون المترتّبة على الدّولة نحو المؤسّسات الإستشفائيّة والتّربويّة والإجتماعيّة الخاصّة، ليبلغ 120 مليار دولار تقربيًا.

8. دخلنا في هذه التفاصيل لكي نطالب المسؤولين عندنا بأن يتّصفوا بروح المسؤوليّة الّتي يظهرها المجتمع الدّولي تجاه لبنان. فيجروا الإصلاحات السّياسيّة والإداريّة والضّريبيّة اللاّزمة، ويوقفوا هدر المال العام، ويقضوا على النّهب والفساد الّذي ينخر الإدارات، ويخطّطوا للنمو الإقتصادي في كلّ قطاعاته، وللإنتقال من الإقتصاد الرّيعي إلى الاقتصاد المنتج. فلا يكتفي المسؤولون بإطلاق سفّارات الإنذار.

9.أمام هذه الأوضاع المقلقة نرفع نظرنا وصلاتنا إلى القدّيس يوسف، شفيع هذه المدرسة، كي  يشملها ومثيلاتها من المؤسّسات التّربويّة بعنايته؛ ويعضد الوالدين في تربية أولادهم، والمربّين في مدارسنا لياكبوا بالتّفاني أجيالنا الطّالعة في مسيرة نموّهم العلمي والرّوحي والأخلاقي، وفي انتمائهم الملتزم إلى الكنيسة، وفي إخلاصهم ومحبّتهم للوطن والتّضحية في سبيله. ونسأله من أجلنا جميعًا كي نحسن الإصغاء الورع مثله إلى كلمة الله وإيحاءاته، ونتمثّل بجهوزيّته لتحقيق إرادة الله علينا، وبطاعته المجسَّدة في الأفعال والمواقف والمبادرات. وكما صان كرامة مريم، وحماية يسوع، نسأله أن يصون كنيسة الله، وهو شفيعها، ويحميها من مكايد أعدائها.

ومعًا، في يوم تكريمه، نرفع نشيد المجد والتّسبيح لله الّذي اختاره وقدّسه، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

اضغط هنا لمشاهدة البوم الصور

PHOTOS: Patriarch Rai Mass_St Joseph Aintoura_18.3.2018