النص الأول: كنيسة الرجاء

المجمع البطريركي الماروني 2003-2006


النص الأول: كنيسة الرجاء


توطئة

  1. يحمل النصّ الأوّل عنوان: “كنيسة الرجاء“، لأنّه بمثابة الروح لكلّ النصوص وللمسيرة المجمعيّة بأكملها. فالكنيسة بطبيعتها مشدودة إلى الأمام، إلى اكتمال الملكوت الذي دعا السيّد المسيح إلى الانتماء إليه، ووضع له الأسس والمبادئ ليهتدي بها كلّ من يؤمن به. والكنيسة المارونيّة تبغي، من خلال مجمعها، أن تقوم بعمليّة تجدّدٍ روحيّ يشمل نواحي حياتها المتعدّدة، موطِّدة رجاءها على المسيح، بالرغم من كلّ ما تعرّض له مؤمنوها من خيبات أملٍ وصعوبات على أكثر من صعيد. غير أنّها تتّكل على قوّة الروح القدس الذي يعضدها في مسيرتها ويبعث فيها الرجاء.
  2. لذلك يعود بنا هذا النصّ إلى بعض المصادر في تراثنا المارونيّ، ليبرز ما فيها من نظرةِ شاملة إلى الرجاء المبنيّ على الثقة الكاملة بالربّ وبمواعيده الصادقة. لن يتوقف النصّ على مباحثات لاهوتيّة معمّقة في الرجاء الذي هو من الفضائل الإلهيّة الثلاث إلى جانب الإيمان والمحبّة، بل يَستنير بنصوصٍ ليتورجيّة عن الرجاء، ثم يحلّل الواقع الراهن بما يثيره من هواجس وقلق، وبما يحمله من علامات رجاءٍ تزخر بها كنيستنا ليستشرف مستقبل الرجاء الذي كان هذا المجمع من أهمّ تجلّياته.
  3. ويعتمد النصّ المحاور نفسها التي ستُعتمد في كلّ النصوص (الماضي والحاضر والمستقبل)، لأنّ المسيحيّين عامةً – والموارنة خاصةً – هم أبناء التاريخ، أبناء المبادرة الإلهيّة في الخلق كما في الخلاص؛ فرجاؤهم متأصّل في هذا التدبير الإلهيّ، الذي من سماته أمانة الله لوعوده التي لا بدّ لها من أن تتحقّق مهما بَدَت الظروف والأحداث معاكسة لها. لذلك تعتبر الذاكرة التاريخيّة من رافعات الرجاء. وعندما يستعرض المؤمنون تاريخ الخلاص، وتاريخ كنيستهم بالذّات، يكتشفون أنّهم أيضًا هم أبناء الوعد الذي بدأ مع إبراهيم وتحقّق في المسيح، ويبلغ ذروته في الملكوت السماويّ. ولذلك يتمسّكون بالرجاء الذي لا يخيّب صاحبه، لأنّ ينبوعه ومرتكزه في الله. وهذا لا يعني إطلاقًا الهروب أو التهرّب من قساوة الواقع، بل جبهه بإيمانٍ والتزام حتّى ما يُعتبر نقمة يتحوّل إلى نعمة، وذلك بقوّة الروح القدس الذي أفاضه الله في قلوبنا، حتّى يكون الأساس الراسخ لرجائنا.

أوّلاً: الرجاء في بعض النصوص الليتورجيّة

1. المسيح هو الرجاء                            

غير أنّ أوصاف المسيح بالنور والقيامة والحياة، والأعمال التي قام بها في حياته، والدّعوات التي أطلقها للاتّكال عليه، تشجّع المؤمنين على الالتجاء إليه وطلب معونته: “لا نعرف بابًا آخر نقرعه غير بابك يا الله، لأنّك من فمك المقدّس قلت: أُدعوا فأستجيب، إقرعوا، فأفتح باب المراحم” (مساء السبت، اللحن الأوّل).

وتزخر الصلوات باستذكار مآثر الله في العهد القديم والعهد الجديد، طلبًا لتدخّله الآن. فيُذكر ظهور المسيح للرسل وتسكين العاصفة، وتوفير الخلاص لدانيال وفتيان آل حننيا: “فاستَجِبْنا على مثالهم أيّها الصالح والبشوش، واقبَل صلواتنا مثلهم، واسترْنا تحت أكنافك يوم ظهورك أيّها الإله، لأنّ رجاءنا هو بك، واتّكالنا عليك، وإيّاك ندعو يا ربّنا وإلهنا لك المجد” (ليل الاثنين، القومة الرابعة).

وكم من نصوصٍ هي بمثابة تذكير لله بأنّه استجاب صلوات الكثيرين، فلا داعي لئلاّ يستجيب من يلجأون إليه الآن لأنّه متّكلهم ورجاؤهم.

2. صعوبات الرجاء

لذلك كانت هناك دعوة إلى التيقّظ وعدم الانزلاق وراء المغريات. وهي تستند إلى التأمّل في زوال العالم ونسيان الجبابرة الذين حكموه والإقلاع عن الوقوع في شرك الدنيا. بالمقابل، هناك تذكير بالملكوت الذي يستدعي السهر كالعذارى الحكيمات وإبقاء المصابيح مضاءة بانتظار العريس، أيّ المسيح الآتي، الذي يبهج كلّ الذين انتظروه، فيدخلهم ويقيمهم عن يمينه ويورثهم الحياة الجديدة.

وبعض الصعوبات الأخرى تأتي من الخارج؛ فالكنيسة محاطة بالضيقات من كلّ الجهات؛ لذلك تصرخ الى الربّ حتّى يرحمها وينجّيها: “إنّ الكنيسة تصرخ إليك بالألم والدّموع لأجل بنيها المعذّبين بكلّ الأحزان؛ بالجوع والأوبئة والعذابات المرّة والآلام الشديدة من المضطّهدين. فلتُظهِرْ يا ربّ نعمتك، وليُدرِكْ خلاصك السَّاجدين لك، فيرتّلَ لك المجد والشكر جميع الشعوب” (مساء الثلاثاء).

“أمّن يا ربّ أقاصي المسكونة، ولاشِ الحروب والخصومات من كلّ الخليقة، واحفظ الكنائس والأديار… وكنْ قيّمًا على شعبك ومدبّرًا” (صباح الأربعاء، النشيد الثالث).

وبالرغم من كلّ الصعوبات، يبقى المسيح “متّكل الأبرار، ورجاء الصدّيقين، والملجأ العظيم للمؤمنين” (مساء السبت)؛ لذلك يلجأون إليه لينصرهم: “أيّها المسيح الملك، أنت رجاء المؤمنين، وأنت ناصرنا. إيّاك ندعو كلّ ساعة. فهلمّ، يا ربّ، لمساعدتنا، وشدّدنا بحسب عادتك، فنرتّل لسيادتك المجد في كلّ حين” (مساء الأحد).

3. رجاء الشّهداء والأموات

إنّ الرجاء الذي يغمر قلوب الشهداء، قاد إلى اعتماد ذكرهم بصورة دائمة في الفرض المارونيّ الذي خصّهم بالمقطع قبل الأخير من أناشيد الصلاة الكنسيّة.

ورجاء الأموات بالقيامة يرتكز على الثوابت التالية: المعموديّة، القربان المقدّس المطمور في جسم الإنسان، وكأنّه خميرة القيامة، الإيمان الصادق، والمسيح القائم من الموت. ولا تغفل النصوص ما يرافق الموت من حزنٍ وألمٍ وتشويه، غير أنّ ذلك عابر إذا ما قورن بفرح القيامة: “سلامٌ معكم أيّها الأموات الذين رقدوا بالمسيح بالرجاء الوطيد، فلا يُحزنكم فساد جمال وجوهكم، لأنّه سيتجدّد، وترثون الملكوت” (ستّار الجمعة).

4. الرؤية الكنسيّة الشاملة

 وكيف لا يتقوّى المؤمنون ويعتصمون بالرجاء، عندما تتضمّن صلواتهم المتكرّرة ذكر الأنبياء والرسل والشّهداء والمعترفين والكهنة، والرعاة والملافنة والموتى، والبيعة والأديار والمذابح… والبتولين والأعفّاء والصوّام والزهّاد والنسّاك (ليل الأربعاء، المقدّمة الرابعة). هذه القافلة من الشهود قد أتمّوا سعيهم وجهادهم، وهم شفعاء لدى الله من أجل إخوتهم الذين لا يزالون يجاهدون في العالم، منتظرين لقيا المسيح الذي على رجائه يحيون.

وكم من مرّة ورد ذكر مار يعقوب ومار مارون ومار إفرام ورفاقهم لتذكير الموارنة بأنهم ينتسبون إلى عائلة القدّيسين الأقرب إليهم، وكانوا مثلاً في التوكّل على الربّ. غير أنَّ ذروة البعد الكنسيّ تتجلّى في ختام الصلاة اليوميّة: “ارحم رعيّتك بصلوات الأمّ التي ولدتك والقدّيسين، وبصلوات الأنبياء والرّسل والشّهداء والمعترفين بك، والأبرار والكهنة والآباء القدّيسين، والرعاة الصادقين والملافنة، وبصلوات مريم والقدّيسين”: واحفظنا باسمك الحيّ القدّوس من الشرّير ولا تدخلنا التجربة، لأنَّ رجانا كلّ ساعة عليك، وإيّاك ندعو، يا ربّنا وإلهنا، لك المجد إلى الأبد”.

  1. ولا يمكن إغفال ما يتضمّنه القدّاس من تمسّك بالرجاء، مرتكز على القيامة، عندما يعلن الشعب، بعد كلام التأسيس، جوابًا على ما يقوله الكاهن: كلّما كمّلتم هذه الأسرار، إصنعوا ذلك لذكري: “نذكر موتك يا رب، ونعترف بقيامتك، وننتظر مجيئك”. إنّها محطّات ثلاث في التدبير الإلهيّ تتنظّم على إيقاعها حياة المؤمنين ورجاؤهم: فالموت يمثّل الشقاء والآلام وزوال الحياة؛ أمّا القيامة فهي الضمانة التي تبيّن للمؤمن أنّ الموت ليس نهاية كلّ شيء؛ بل هو معبر إلزاميّ إلى الحياة. وما بين هذين الحدّين، تجري الحياة المسيحيّة ينعشها انتظار مجيء الرب. والانتظار علامةٌ من علامات الرجاء يدفع بالمؤمنين على حمل الصليب واجتياز الموت مع القائم من الموت والمنتصر عليه، لأنّه “سيأتي بمجده العظيم وينير العيون التي انتظرته… وبنوره البهيّ يبهجنا” (نشيد النور لمار أفرام).
  2. الإنشداد إلى الملكوت السماويّ، والرغبة الملحّة في تحقيق هذا الملكوت، عنوانان أساسيّان في الفرض المارونيّ. هناك وعيٌ إسكتولوجيّ يملأ الجماعة الليتورجيّة، وتعبّر عنه النصوص، كالآتي: “أُمْزُج يا ربّ، ألحان تسابيحنا وترانيم تهاليلنا في هذا الصباح، بألحان الجموع السماويّة في بيعة أورشليم العُليا (صباح الأربعاء)”.
  3. هذا هو الجوّ العام الذي عاش فيه الموارنة. فكان الرجاء يرسّخ فيهم الإيمان، بالرغم ممّا يعترضهم من شدائد، ويتعرّضون له من مضايقات واضطّهاد، لأنّ المقاييس التي اعتمدوها في حياتهم لم تكن بشريّة بحتة، بل “سماويّة”، لأنّ قلوبهم كانت ترتوي من تمثّلهم بالمسيح، وبالقدّيسين، وتشدّ بهم إلى فوق، حيث ينتظرون خلاصهم من الربّ. وكانت حياتهم التي يعيشونها على وقع الصّلوات والتراتيل، في الكنيسة والبيت، مدوزنة على وعود الربّ وانتظاره، وعلى تراث الآباء القدّيسين. ولذلك طلبوا إلى الروح القدس: “رسّخ في عقولنا الإيمان الصحيح، وأضرمنا بنار محبّتك الوهّاجة، ووطّد في قلوبنا الرجاء الصالح والعزاء القويّ الذي يحملنا بعيدًا عن هذا العالم الباطل” (مساء أحد العنصرة).

ثانيًا: الرجاء، هواجس وعلامات

  1. لقد تبدّلت اليومَ الأجواء التي عاش فيها الموارنة قديمًا والتي اتّسمت بروحانيّة العمل والصلاة، على الصعيد الرعويّ والكنسيّ. وزال العالم القديم بتقاليده وممارساته التي كانت تشكّل لهم إطارًا يجمعهم ويحصّنهم. ودخلوا في عالم، أو عوالم جديدة، لها مقاييسها، وفي مجتمعات متعدّدة الانتماء الدينيّ والثقافيّ، فاختلطوا بغيرهم من الناس الذين لا يشاطرونهم رؤيتهم، وخضعوا لأنظمة عمل ومصالح نقلتهم من حال إلى أخرى. فالحياة في المدينة هي غير ما كانت عليه في القرية؛ وبلدان الانتشار هي غير بلدان النطاق الأنطاكيّ، وخاصّة لبنان: لقد وضعهم تبدّل الأحوال ونمط العيش في مواجهة متطلّبات جديدة بلبلت لديهم الكثير من مقاييس كانوا قد اعتمدوها في السابق.
  2. واختبر الموارنة، ولاسيّما في لبنان، مآسي ونكبات وقاسوا مظالم التهجير، والتشتّت والتشرذم، ومرّوا في خيبات متنوّعة، منها السياسيّ ومنها الاجتماعيّ، وحلّ اليأس في قلوب الكثيرين، لأنَّ أحلامهم تحطّمت، وآمالهم خابت. لذلك تساءلوا عن المستقبل والمصير، والمرارة تحزّ في نفوسهم. وسادت صفوفهم، كبارًا وصغارًا، بلبلةٌ، وتسرّب الشكّ إلى الأذهان. ما عدا قلّة ظلّت متمسّكة بحبل الرجاء.

وفي هذه الحالة: طرح سؤال: لماذا وَصلنا إلى ما وصلنا إليه، إذا كان الموارنة حقًا هم أبناء الرجاء؟

  1. وهنا لا بدّ من تمييز أساسيّ بين الرجاء والآمال البشريّة:

فالرجاء يتناول كلّ ما له علاقة بحياة الإيمان على كلّ المستويات، ولاسيّما الروحيّة منها. فمن يضع رجاءه في الله، وفي كلّ ما يقوله الله ويرشد إليه، وإن بدا عصيًّا على الفهم، يبقى ثابتًا وإن خضع لامتحانٍ قاسٍ، لأنّ الامتحان يؤدّي إلى الثبات والتمسّك بمواعيد الله. وهذا ما تجلّى في موقف الشهداء الذين آثروا الموت على الكُفر بالمسيح، معتبرين أنّ الموت مدخل إلى الحياة، في حين أنّ الكُفر بالمسيح يبعدهم عنه إلى الأبد. ولقد عبّر القدّيس بولس أفضل تعبير عن نوعيّة هذا الرجاء عندما قال: “نفخر بالرجاء لمجد الله. وعدا ذلك فإننّا نفخر بشدائدنا لعلمنا أنّ الشدّة تلد الصبر والصبر، يلد الاختبار والاختبار، يلد الرجاء، والرجاء لا يخيّب صاحبه، لأنّ محبّة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا” (رو 5/2 – 5).

أمّا الآمال البشريّة فهي تنطلق من فكر الإنسان وحساباته والمشاريع التي يخطّط لها. ويمكن هذه الآمال أن تتحقّق، إذا توافرت لها الظروف الملائمة، كما يمكنها أن تفشل لأسباب مرتبطة بالإنسان نفسه أو خارجة عن إرادته. في حال النجاح، يسعد الإنسان ويطمئن ويخطّط لمستقبلٍ أفضل، غير عابئ بما يُخبئ له هذا المستقبل الذي لا يستطيع التحكّم به، (مثل الغنيّ الجاهل في الإنجيل). أمّا في حال الفشل، فييأس الإنسان ويختبر الخيبة. وإذا ما تكرّر الفشل وتحكّم اليأس بصاحبه، فقد يؤدّي به إلى القعود عن العمل وإلى التقهقر والانتحار.

  1. وإذا ما طبّق هذا التمييز على وضع الكنيسة المارونيّة، خاصّة في لبنان في محنة الحرب الأخيرة، لبدا واضحًا أن التباسًا قد حصل في أذهان الكثيرين بين الرجاء المسيحيّ والآمال البشريّة:

فمنهم من ظلّ صامدًا معتصمًا بالإيمان ومتمسّكًا بالرجاء وتجاوب مع دعوة البطاركة والأساقفة الكاثوليك في رسائلهم وبياناتهم؛ وتجلّى ذلك في الإعداد للسينودس من أجل لبنان وفي تقبّل الإرشاد الرسوليّ الذي أعقبه: “رجاء جديد للبنان” الذي سلّمه المثلّث الرحمات قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني إلى المسيحيّين والمواطنين في زيارته إلى لبنان في أيّار سنة 1997. وصار هذا الإرشاد مرجعًا لتشديد العزائم وترسيخ الإيمان والرجاء.

لكنّ هناك أناس بَلْبَلتْهم الانتكاسات السياسيّة والمآسي الاجتماعيّة، وولّدت لديهم الخيبات، لأنّ الطموحات والآمال البشريّة أخفقت إخفاقًا ذريعًا. ولقد زال ما اعتبروه ضمانة للمسيحييّن في نظامٍ سياسيٍّ قابل للتطوير. وأخذ الأفرقاء يتبادلون التُّهَم، ويلقون مسؤوليّة الفشل بعضهم على بعض، ولم ينجُ المسؤولون الكنسيّون أنفسهم من هذا الواقع.

مع ذلك، لا بدّ من التشديد على أنّ هناك تداخلاً بين الرجاء المسيحيّ والآمال البشريّة، لأنّ المسيحيّ يعيش كغيره من الناس، وله طموحاته وآماله التي يجسّدها في مشاريع، تنفحها الروح المسيحيّة التي تمكّنه من رؤية أبعادها واطلالاتها كافّة، فلا يبقى أسير الآفاق الأرضيّة المحدودة. وكذلك الجماعة المؤمنة، أيّ الكنيسة، فإنّها تلتزم بما يهمّ الإنسان من آمال وطموحات، ولكنّ غايتها أن تساعده حتّى ينطلق منها لتحقيق المشروع الإلهيّ: خلاص الإنسان والإنسانيّة.

  1. لا مجال هنا لتحديد المسؤوليات عمّا جرى. غير أنّه، بالرغم من كلّ السلبيّات التي حلّت بالموارنة، لا بدّ من الإقرار بأنّ علامات الرجاء في الكنيسة المارونيّة ظلّت هي الأقوى والأثبت، وهي التي حفظتها من الضياع لتطلقها من جديد بثقة ورجاء أكيدين معتصمة بالإيمان الراسخ.

ومن علامات الرجاء:

1. انتشار الكنيسة

  1. ان النكبات والنكسات محنة، ولكنّها تحوّلت في الكنيسة المارونيّة إلى نعمة، لأنّها أدّت الى انتشارها، وأخرجتها من نطاق جغرافيّ ووطنيّ محدّد. وهذا الانتشار يضفي على الكنيسة بُعدًا جامعًا، ويضعها في مصافّ الكنائس الأخرى، تدليلاً على تنوّع الكنيسة وتعدّدها في وحدة لا تنفصم. غير أنّ هذا الانتشار يحمّل الكنيسة المارونيّة رسالة الأصالة لتراثها لتتفاعل وتتناغم مع التراثات الكنسيّة الأخرى. فلا تكتفي بأن تكون كنيسة العصور القديمة، بل تعمل على أن تخرج من ذخائرها الجديد الذي يتلائم وحاجات إنسان اليوم، أمارونيًّا كان أم غير مارونيّ. ولا يندرج هذا المطلب في إطار التمنّيات الخياليّة، بل يرتكز على ما يزخر به التراث السريانيّ الأنطاكيّ من كنوز يثمّنها كل من يطلّع عليها. ولقد اضطلعت الكنيسة المارونيّة بدور الانفتاح الثقافيّ، وأسهم بعض أبنائها في النهضة العربيّة، في ظلّ ظروف سياسيّة واجتماعيّة غير موآتية.

2. التمسّك بالمركزيّة البطريركيّة

  1. لقد أعرب الموارنة، أينما وُجدوا، عن تمسّكهم بالمركزيّة البطريركيّة، وعن تعلّقهم بشخص البطريرك كضامنٍ لوحدتهم ورمزٍ لها. ولهذا التمسّك وجهان متلازمان: فإنّه، من جهة، يقي من التشرذم الكنسيّ. وهذا يعني أنْ لا مجال لأيّة مجموعة مارونيّة، مهما تعاظمت، أن تفكّر في الانفصال عن الكنيسة الأمّ، لأنّها تفقد هويّتها، وتضعف الأمّ، وتهدّدها بالاضمحلال. وإنّه، من جهة ثانية، يُدَعِّم الوحدة ويُفعّلها حتّى تقوى العلاقات وتترسّخ بين البطريركيّة وسائر الأبرشيّات والرهبانيّات والمؤسّسات الكنسيّة على أنواعها. ففي التبادل إثراء، وفي التواصل حياة وتقدّم وتطوّر، وفي التعاون والاتّحاد قوّة واستثمار طاقات لخير الجميع.

3. وعي الخصوصيّة ونشر التراث

4. حسّ الانتماء الكنسيّ

من المؤكّد أنّ هذه الظاهرة لم تعمّم إلاّ بمقدار. ولكنّها أظهرت أنّ المؤمنين ليسوا بغريبين عن كنيستهم، إن هي عرفت أن تقدّم إليهم ما يحتاجون إليه من فكرٍ ورؤيةٍ وتوجيهٍ ومشروع يستقطبهم ليكونوا فاعلين في كنيستهم. وهذا يرتّب على المسؤولين في الكنيسة أن يستثمروا طاقات العلمانيّين، لأنّ عليهم أيضًا تقع مسؤوليّة بنيان الكنيسة.

5. جاذبيّة الكنيسة

لا تزال هذه الكنيسة تجذب الشبّان والشابّات إلى تكريس حياتهم للمسيح وخدمته في الحياة الكهنوتيّة والرهبانيّة. ولا تزال تغذّي المؤمنين، بما تقدّمه لهم في طقوسها وصلواتها من غذاء روحيّ، خاصّة بعد التجديد الليتورجيّ الذي تقوم به الكنيسة منذ أعوام. وهذا يحتّم إنعاش الاحتفالات وإطلاق الصلاة الخورسيّة الجماعيّة في الرعايا ليشترك فيها المؤمنون ويتواصلوا مع تراث قديم أثبت جدواه تقوًى ومعرفة وقداسة.

وبلغت النهضة الروحيّة الشبيبة التي تنتمي إلى مختلف المنظّمات والحركات الرسوليّة ويقومون بنشاطات متنوّعة في إطار الرعيّة وخارجها، متحسّسةً حاجات المجتمع، ومدركة مسؤوليّاتها فيه. وهناك توق إلى العودة إلى الينابيع الإنجيليّة وإلى اكتشاف وجه يسوع واتِّباعه.

ولا تزال الكنيسة، في شخص رعاتها، مرجعًا وملاذًا يهرع إليه كلّ الذين يريدون أن يسمعوا كلمة الحقّ والدّفاع عن الإنسان وكرامته وحقوقه وحقّ الوطن في الحياة الحرّة والسيادة.

وتبقى الكنيسة جذّابةً بقدر أمانتها للمسيح وانعكاس وجهه في وجه أبنائها، أيًّا كان موقعهم في الكنيسة ومكانتهم في المجتمع، وذلك لأنّ رجاءها هو في المسيح وفي الروح الذي يجدّدها كلّ يوم.

6. التجدّد الروحيّ

7. مبادرات تضامن

8. كنيسةٌ ذات رسالة

ورسالة الكنيسة لها جذورها التاريخيّة ولها مبرّراتها، وإن تكن محفوفة بأخطار. ولا بدّ للموارنة خاصةً، وللمسيحييّن عامّة، من أن يُدركوا أنّ خيار الرسالة، أي خيار البقاء في الشرق، هو خيار شخصيّ وجماعيّ. إنّ الجهود التي تبذل لإعادة المهجّرين إلى بلداتهم، ولاسيّما المختلطة منها، تصبّ في تدعيم خيار الرسالة والعيش المشترك. لأنّ العيش المشترك الذي ترسى أسسه على الحوار والاحترام والتعاون لبناء وطن يسوده الحقّ والعدل وتُحترم فيه حقوق الإنسان هو من ركائز الرجاء السليم.

غير أنّ التشديد على رسالة الكنيسة في الشرق لا ينتقص من أهمّيّة رسالتها في بلدان الانتشار، شرط أن تعمل ككنيسة، بكلّ أبنائها، وفي الأمانة لتراثها، فتكون شاهدة للتعدّد في الوحدة.

9. مشاركة العلمانيّين

10. التقارب المسكونيّ

11. كنيسةٌ ذات بُعد مريميّ

“يا أمّ الله يا حنونة يا كنـز الرحمة والمعونة                          أنت ملجانا وعليك رجانا

 وإن كان جسمك بعيدًا منّا                                              صلواتك هي تصحبنا”.

فالاستغاثة بمريم أمر مألوف وتكريمها شائع، وذكرها في الأذهان والأفواه مستمرّ ولقد أفردت لها البِيت غازات المارونيّة، وصلوات السنة الطقسيّة، وصلوات الفرض اليوميّة مساحاتٍ واسعة نثرًا وشعرًا. ولا بدّ لنا هنا من أن نتذكّر كلام البطريرك الياس الحويّك في تدشين معبد سيّدة لبنان في حريصا:

” إنّ العواصف تتجمّع فوق رؤوسنا، إنّما العذراء التي حَرَست الجبل حتّى اليوم ستظلّ حارسة له. وكما في ليل المعركة يتناقل الجنود كلمة التعارف لئلاّ يسقطوا في الكمائن، كذلك نحن، فلنتناقل كلمة السرّ والرجاء ألا وهي: “مريم العذراء”.

ثالثًا: آفاق الرجاء

لذلك يجب اعتبار المجمع البطريركيّ محطّة هامّة في حياة كنيستنا، تزوّدنا بما نحتاج إليه من وسائل فكريّة وعمليّة لمتابعة ورشة التجدّد في البنيان الكنسيّ الذي نحن مؤتمنون عليه. وهذا ما يغذّي فينا الرجاء، الذي بدونه لا مستقبل لنا. والرجاء هو إلتزام؛ والالتزام بُرهان على مصداقيّة الرجاء. والتزامنا ككنيسة هو أن نتابع المسيرة المجمعيّة على كلّ الصعد، متّكلين على قوّة الروح، وعلى ما حبانا الله من نعم وبركات وطاقات لنقوم بما يحمّلنا من مسوؤليّات.

هذه العبارة تَوَجّه بها تلميذا عمّاوس إلى السيّد المسيح، بعد أن شرح لهما معنى مسيرة آلامه وموته وقيامته، وفتح ذهنَيهما لفهم الكتب، وأيقظ في قلبيهما شعلة الحبّ والرجاء، بعد الخيبة التي مُنيا بها. وهذه العبارة توّج بها المثلّث الرحمات قداسة البابا يوحنا بولس الثاني رسالته عن سنة الإفخارستيّا، التي أرادها فعل إيمان بحضور المسيح الدائم مع كنيسته في سرّ القربان المقدّس. ويمكن أن تشكّل هذه العبارة نداء الكنيسة المارونيّة في ختام مجمعها البطريركيّ إلى السيّد المسيح حتّى يبقى رفيقًا لها في مسيرتها المجمعيّة التي كان شعارها: “أنا معكم إلى منتهى الأيّام؛ لا تخافوا”.

غير أنّ العبارة المقابلة التي يمكن السيّد المسيح أن يوجّهها إلى أبناء الكنيسة فهي: “ابقوا معي”. فالاستغاثة بالمسيح كي يبقى معنا، تستدعي منّا أن نكون ونبقى معه. وهذا هو مطلبه: “اثبتوا فيّ وأنا فيكم… من يثبت فيّ وأنا فيه، يحمل ثمرًا كثيرًا، لأنّكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15/4-5).

وهذه هي أمثولة تاريخنا ومبعث رجائنا: بقدر ما كانت كنيستنا راسخة وثابتة في المسيح، حتّى الاستشهاد، عبرت المحن والصعوبات، وأثمرت ثمار القداسة والتقدّم والتجدّد، لأنّ رجاءها ومعتصمها كان السيّد المسيح القائم من الموت.

وهذه أيضًا هي دعوة المستقبل التي تتوطّد في التاريخ الذي عاشته الكنيسة مع المسيح، فما خاب رجاؤها. فالمجمع البطريركيّ، بنصوصه وتوصياته، هو محكّ للكنيسة؛ فإن تقبّلته وطبّقته، كان مبعث نهضة ورجاء؛ وإن أعرضت عنه، لم يُجدها نفعًا في مسيرة التجدّد.

خاتمة: شكر وفرح

واستذكار الماضي الكنسيّ هو استذكار لأمانة الربّ ووعوده، الذي لم يخذل كنيسته في أيّة مرحلة من مراحل تاريخها، بالرغم ممّا حفل به من مآسٍ. ولذلك تشكّل الذاكرة التاريخيّة المارونيّة الكنسيّة رافدًا مهمًّا من روافد الرجاء؛ فلا بدّ من إحيائها ونقلها إلى الأجيال الجديدة، حتىّ يطلّوا منها إلى العالم الجديد. لقد قال أحد أساقفة الكنيسة اللاتينيّة، بعد زيارة قنّوبين والاطّلاع على تاريخ البطاركة والموارنة الذين سكنوا الوادي المقدّس قاديشا لمئات السنين:

“إنّ روح قاديشا يجب أن ينتقل إلى بيروت”. وكان يقصد أنّ الماضي لا يقوم بالحنين والعودة إليه بالقفز فوق الزمن وتطوّرات العصر والتسمّر في التقاليد والعادات القديمة: بل يجب استلهام ثوابت الماضي وأمثولاته التي كوّنت الروحانيّة المارونيّة وبثّها في عالم اليوم، في بيروت كما في أيّ مكان يستوطنه الموارنة.

وليس هذا الكلام من مستوى الأحلام، بل من مستوى الرجاء الطموح المستند إلى الإيمان الراسخ الذي كان ذخيرة الماضي وركن الحاضر ومنعش المستقبل.

ولقد قامت مبادرات حديثة مستلهمة الماضي وثوابته لاكتشاف الأصالة الروحيّة النسكيّة المارونيّة لكي تكون منطلقًا لالتزامٍ مسيحيّ في عالم اليوم. إنّ روح الربّ لا يزال يعمل في الكنيسة ليجدّدها ويحييها بالرجاء، ولا ينتظر سوى التجاوب ورفع الشكر إلى من يجدّد وجه الأرض.

غير أنّ الرجاء، وبالأخصّ رجاء الكنيسة، وإن يكن نعمة من الربّ، فهو مسؤوليّة كنسيّة، يسهم فيه كلّ عضوٍ من أعضائها، بقدر ما يستقي من ينبوع الرجاء الذي هو المسيح.

والرجاء بمفهومه العميق هو أساس الفرح؛ وكلاهما من ثمار الروح. فكنيسة الرجاء هي كنيسة الشّكر وكنيسة الفرح، لأنّها راسخة في روح الربّ الذي يحييها ويسيّر خطاها، ويجدّد شبابها باستمرار.