النص السادس: البطريرك والأساقفة

المجمع البطريركي الماروني 2003-2006


النص السادس: البطريرك والأساقفة


مقدّمة

  1. للبطريرك والأساقفة في كنيستنا المارونيّة مكانة كبرى مرتبطة من جهة بتكوين الكنيسة وما نشأ من علاقات وثيقة بيّنهم وبين الشعب، ومن جهة ثانية بالأسس التي تبنى عليها الكنيسة بصورة عامّة.

ولقد استفاضت نصوص المجامع المسكونيّة والأبحاث اللاهوتيّة والمجامع الأسقفيّة بتناول هذا الموضوع من جوانبه المتعددة، لاهوتيًّا وراعويًّا وروحيًّا. وفي العودة إلى هذه المراجع كبير فائدة.

غير إنّنا في سياق مجمعنا البطريركيّ، وأمانةً منّا للمنهجيّة المعتمدة، ونظرًا إلى دور البطريرك والأساقفة في عمليّة التجدّد التي يهدف إليها هذا المجمع، كان لا بدّ من التطرّق الى هذا الموضوع، إنطلاقًا من تاريخنا وتراثنا مرورًا بالحاضر، بغية استشراف المستقبل. علمًا أنّ التجدّد عمل دائم يخضع لما يوحيه روح الربّ، ولما يتّخذه الإنسان من مواقف ويقوم به من أعمال تتلاءم وهدف الرسالة والمهمّة الموكولتين إليه. ولقد أسهبت كتبنا الطقسيّة، ولاسيّما كتاب الرّسامات، في وصفها.

الفصل الأوّل : البطريرك والأساقفة في التقليد والتراث المارونيّ

أوّلاً: البطريرك

1. اختيار البطريرك وصفاته

وتشدّد صلوات الرّتبة على دور الروح القدس الذي ألهم آباء المجمع لاختيار أحدهم دون سواه، ويستدعونه مرارًا ليحلّ عليه ويؤيّده ليقوم بمهامه خير قيام، مستعيدين في القراءات الأحداث التي برز فيها دور الروح القدس في بداية الكنيسة: حلوله على الرسل في العنصرة، واختيار متيّا خلفًا ليهوذا، وإقامة الشمامسة.

وعندما يضع الأساقفة المحتفلون أيديهم على رأس البطريرك المنتخب يسألون الله لكي يحلّ عليه الروح القدس “ليرعى ويفتقد الخراف التي أؤتمن عليها… وامنحه ما منحت رسل ابنك الوحيد لكيّما يكون رأس رؤساء، ممجّد… لتثبيت شعبك وخراف ميراثك وأعطه الحكمة والمعرفة، ليعرف مسرّة سيادتك… وحدود البرّ والحكم ويفكّ المشكلات العويصة وكلّ رباط الإثم”[5]، “وكمّله بالحبّ والمعرفة، والخبرة وبالأدب، بالكمال، بالنشاط، بالقلب النقيّ، ويصلّي من أجل الشعب…”[6].

وهذا التعهّد يدرج البطريرك في التسلسل الرسوليّ والشركة الكنسيّة لأنّ حياته صارت وقفًا على الكنيسة ولم تعد ملكًا له. وعليه أن يتصرّف بهدي الإنجيل الذي وضع على رأسه أثناء الرسامة، وخاصّة بهديّ انجيل يوحنّا عن الراعي الصالح الذي يتلوه بُعيْد رسامته وبعد ارتدائه الثياب والشّارات الحبريّة التي تقلّدها وكانت ترافقها العبارة التي تكرّرت غير مرّة: “لمجد وإكرام وتبجيل وتعظيم الثالوث الأقدس المتساوي بالجوهر، ولأمان وبنيان بيعة الله المقدّسة”.

2. خادم القدسيات

فالميرون الذي يكرّسه “يدلّ على ابن الله الوحيد الذي يضمحلّ الخطيئة، ويهلك العدو” وهو أيضًا تمثال الروح القدس: الذي به يصير الموسومون “مسيحيّين حقيقيّين” وينالون العطايا والمواهب الإلهيّة. وما جلوسه في الحنيّة إلاّ رمز للآب السماويّ الجّالس على العرش والحاضر أبدًا مع شعبه، وما احتفاله بالتكريس والخدمة الإلهيّة إلاّ مشاركة في كهنوت المسيح الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف.

3. مفهوم الرئاسة

ويصف الكتاب درجات الكهنوت بثلاث: رئاسة الكهنوت والكهنوت والشمّاسيّة… فرئاسة الكهنوت تستجمع ما سبق وتكمّله إذ تنير كدرجة الكهنة، وتطهّر كدرجة الشمّاسيّة لكنّها تكمّل سائر الدرجات والتكهينات من “شرطنة وميرون وتقريب قربان وتوضح أحاجيها وتشرح معانيها وتفسّر مغازيها. لذلك كان رئيس الكهنة بالنسبة للآخرين الأوّل، المتقدّم في الكرامة، والقريب من الله من قبيل الموهبة لا من قبيل الأعمال”[10].

4. المتقدّم على شعبه

  1. غير أنّ كتاب الهدى أناط بالبطريرك مهمّات واسعة إذ قال فيه: “أقام بين شعبه الذي خضع لقيادته الروحيّة والعقائديّة والقضائيّة والطقسيّة والزمنيّة”[11]. فاعتبر البطريرك على ممرّ التاريخ أبًا ومعلمًا ورئيسًا ومدبرًا. زدّ على ذلك أنّ اللّقب الذي يحمله، بطريرك أنطاكية، واسم بطرس الذي يضيفه على اسمه يمنحانه سلطة رسوليّة، وإن أصبحت أنطاكية، المنطلق التاريخيّ، رمزًا روحيًّا، بعد أن استقرّت البطريركيّة في لبنان، متنقّلة من مقام الى آخر بسبب المضايقات والاضطهادات ومتّخذة مريم شفيعة دائمة لكلّ مركز حلّت فيه.

ولقد عبّر البطريرك الدويهي عن مهمّة البطريرك بقوله أنّه “يتقدّم على شعبه ويتكلّم عليه” ولقد جاء كلام الدويهي نتيجة خبرة عاشها في تحمّله المسؤوليّة الكنسيّة في كلّ مراحلها وصولاً الى السّدة البطريركيّة؛ ولم تخلُ هذه الخبرة من ضغوط مورست عليه، إنّما ظلّ فيها وفيًّا لأسلافه ولما تحمّلوه في سبيل الرعيّة حتى يبقى الشعب أمينًا لربّه ومتمسّكًا بكنيسته. وهذا ما حداه على القول الذي صار شعارًا له ولخلفائه: “الأمانة لمارون وللكنيسة الرومانيّة”.

ولا بدّ من التنويه بأنّ المكانة التي أفردها الدويهي للبطريرك إذ جعله متقدّمًا على الشعب ومتكلّمًا باسمه، لم تكن امتيازًا وشرفًا أو سلطة على غرار السلطات الزمنيّة. بل كان الهدف منها الحفاظ على وحدة الشعب وخيره الروحيّ والزمنيّ، نظرًا الى ما يمكن أن ينشأ من خلاف وتناقض بين الناس وفقًا لأهوائهم ومصالحهم. وحرصًا على هذه الوحدة، كان أعيان الطائفة ومنهم المقدّمون، يُمنحون درجة الشدياقيّة حتى يكونوا الأقرب الى السلطة الكنسيّة، علمًا أنّ بعضهم لم يلتزم بما تمليه الدرجة من احترام ومحبّة وطاعة للرؤساء، خلافًا لما كان عليه الشعب بوجه عام.

5. أبو الرهبان

  1. ومن علامات الوحدة الكنسيّة، ارتباط الرهبان بالبطريرك مباشرة، اذ اعتبروه بمنزلة الأب والرئيس والمرجع الأخير، قبل ان تتنظّم الحياة الرهبانيّة تنظيمًا حديثًا بعد المجمع اللبنانيّ سنة 1736. فهو الذي كان يختار رهبانًا لرئاسة بعض الأديار[12]، كما كان يتّخذ التدابير بحقّ المخالفين.

ولقد شكّلت الحياة الرهبانيّة عصب الحياة الكنسيّة، وفقًا لتقليد مارونيّ قديم، وكان الأساقفة يُختارون من الرّهبان الذين امتازوا بتقواهم ومحبّتهم للكنيسة.

ثانيًا: الأساقفة

  1. إنّ لقب “رئيس الرؤساء” الذي يطلق على البطريرك، يفترض حُكمًا وجود رؤساء وهم الأساقفة الذين يشكّلون مع البطريرك مجمع الكنيسة المارونيّة. ونظرًا الى الترابط الوثيق بين البطريرك والأساقفة في حياتهم ومهمّاتهم، كان لا بدّ من العودة الى بعض النصوص الطقسيّة لاستنباط ما يميّز الأسقفيّة، علمًا أنّ البطريرك والأساقفة يشتركون في الدرجة الكهنوتيّة الواحدة.

1. العلاقة بالبطريرك

  1. منذ تأسيس البطريركيّة المارونيّة، تكوكب الأساقفة حول البطريرك الذي كان يرسلهم لتفقّد الشعب في الرعايا ثم يعودون الى الكرسيّ البطريركيّ أو الى أديارهم، لأنّ الأبرشيّات لم تكن قد نشأت بشكلها القانونيّ الذي يرسم حدودها، ولم يُعيّن ويُنتخب أساقفة لإدارة شؤونها مباشرة[13].

وكان الأساقفة المختارون من الرهبان والنسّاك يواصلون إقامتهم مع جمهور الرهبان بصفتهم رؤساء أديار، أو في المحبسة منصرفين الى الصلاة والتأمل ونسخ الكتب. وكان بعض الأساقفة يقيمون في بلدات كبرى كأساقفة إهدن والعاقورة مثلاً، ولا يزال حتى اليوم يرتدي الأساقفة الإسكيم الذي يجلّل رأس الراهب، لأنّهم كانوا يحتفظون بلباسهم الرهبانيّ الذي تغيّر فيما بعد، خاصة بعد الاتصال بالغرب وتأثير تلامذة مدرسة روما.

وكان الأساقفة معاونين للبطريرك يمثّلونه ويقومون بدور الرعاية وتوزيع الأسرار ويوقّعون على المجامع الى جانبه، التي كان يشارك فيها الإكليروس وأعيان الشعب. وظلّ هذا الوضع قائمًا حتى المجمع اللبنانيّ (1736) الذي قسّم الأراضي البطريركيّة إلى أبرشيّات وألزم بأن يكون هناك أسقف لكلّ أبرشيّة يقيم فيها ويتولى إدارتها من كلّ النواحي.

2. الأساقفة الأبرشيون

  1. غير ان هذا الوضع الجديد ستكون له انعكاساته الإيجابية، اذ توزّعت مسؤولية الرعاية على أساقفة مقيمين في أبرشيّاتهم، وعلى صلة بأبنائهم يزورونهم باستمرار ويعرفونهم ويهتمون بهم ويسهرون على تأمين مستلزمات الخدمة لهم من تعليم وتقديس وتدبير، كما تفصّلت في أبواب المجمع اللبنانيّ الذي حدّد الأبرشيّات بثماني، مع المجمع تأخذ صورة الأسقف ملامح ثابتة على صعد مختلفة راعويًّا واجتماعيًّا وتربويًّا وسياسيًّا. فالبعض أنشأ المدارس، الإكليريكيّة والمدنيّة، لإعداد الكهنة وتعليم الأولاد. وآخرون أنشأوا معامل للحرير لخلق فرص عمل، ولعب البعض دورًا سياسيًّا لدى الوالي والسلطان لحماية أبنائهم. ولذلك أصبح الأسقف مرجعًا روحيًّا وزمنيًّا في آن، ولاسيّما أنّ الأبرشيّات شملت نواحي وبلدانًا عدّة في لبنان وسورية وقبرص.
  2. غير أنّ الوضع الجديد، بالرغم من حسناته الكثيرة، لم يخلُ من إرباك وتبدّل في مفهوم الكنيسة البطريركيّة، فعلاقة الشراكة والمسؤوليّة المشتركة النابعة من مجمع الأساقفة وعلى رأسهم البطريرك لم تعد قائمة كما كانت عليه سابقًا، بالرغم من الشوائب والخلافات التي كانت تحدث بين بعضهم البعض ومع البطريرك. وصار كلّ أسقف يتمتّع باستقلاليّة تامة في إدارة أبرشيّته، الأمر الذي أدّى أحيانًا الى إضعاف الوحدة، بالرغم من الروابط المعنويّة والروحيّة والكنسيّة والقانونيّة التي تربط الأساقفة بالبطريرك، وخاصّة من خلال المجامع التي يعقدونها معًا وبرئاسة غبطته.

3. اختيار الأساقفة

  1. لقد مرّ اختيار الأساقفة بمراحل عدّة: من التعيّين من قبل البطريرك الى تدخل الأعيان، ومن التمنّي على البطريرك باختيار هذا أو ذاك من الكهنة الى الانتخاب من قبل مجمع الأساقفة.

فالبطريرك موسى العكاريّ عيّن ملكًا البقوفاني أسقفًا مكافأة له على جهوده وإبقائه في نسخ الكتب، وتقديرًا لحياته النسكيّة التي دامت ستين سنة. وكان الأعيان أنفسهم يمارسون نفوذهم الدنيويّ ويدعمون مرشحهم حتى ينال رضى البطريرك، خاصة أنّ معظم الأساقفة كانوا ينتمون الى العائلات المارونيّة المعروفة. وأحيانًا اذا جوبهوا بالرفض، كانوا يلجأون الى الإقناع والتمنّي لبلوغ مآربهم. ولم يكن ذلك مستغربًا لأنّ الأعيان كانوا يشاركون في المجامع وكانت لهم الكلمة المسموعة، ولأنّ كثيرًا من الممتلكات الكنسيّة هي وقفيّات وهبات من تلك العائلات. ولقد أثير هذا الموضوع في مجامع عدّة، حتى توصّل الأساقفة والأعيان سنة 1786 في مجمع وطا الجوز الى اتفاق بعدم تدخل الأعيان بفرض مرشح معيّن، إنّما بقي لهم أن يقترحوا ثلاثة أسماء بالاتفاق مع المطارنة ليُختار أحدهم، دون أن يكون السيّد البطريرك ملزمًا بهم إن لم يتمتعوا بالكفاءة[14].

غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه هو دور الشعب في اختيار الرئيس وقبوله، وكان يصار إلى استفتاء الناس ليُدلوا برأيهم في المرشحين، وان لم يكن الرأي ملزمًا، حتى لا يتحوّل الاستفتاء إنتخابًا. لكنّ الأمور ضبطت فيما بعد وأصبح الإختيار وقفًا على مجمع الأساقفة الذي ينتخب المرشّح الكفؤ لملء المركز الشاغر.

4. معايير الإختيار أو الصفات المطلوبة

  1. ان المعايير أو الصفات المطلوبة التي يجب أن يتمتّع بها الأسقف نستخلصها من مرجعين: رتبة الرسامة وجنّاز الأحبار. ويعتبر المرجع الأوّل بمثابة إنطلاقة الأسقفيّة، والآخر كتتويج لها.

أ.  تتحدّث الشرطونيّة عن أهليّة المرشح وكفاءته التي يجب أن يشهد له بها أهل الرعيّة[15]. وتستشهد بقانون الرسل وقوانين الآباء. ولقد ورد فيها على لسان بولس: “أنّ المدعو يجب أن يكون بغير عيب في كلّ شيء، خالصًا من كلّ إثم… فإذا اشتهر وأحسن، فليجتمع الشعب والكهنة والأساقفة يوم الأحد المقدّس. وحينئذ يسأل المتقدّم فيهم الشعب والكهنة إن كان المختار منهم يستحق الرياسة. فإن ارتضوا به يكرّر السؤال عليهم وإن كان مشهودًا له من كلّ واحد أنه مستحق الرياسة العظمى الكاملة وإن كان قد امتلك عبادة حسنة لله… وإن كانت سيرته بغير عيب… ويشهد جمعيهم أنّه هكذا بغير محاباة… ويقتضي اتّفاقهم وظهور اختيارهم التامّ ليسمع لهم… ولقد ورد أيضًا: “لا يُسام الأسقف إلا برضى مطران المعاملة واختيار جميع الأساقفة. ولا يتسلّط في البيعه إلاّ من كان معروفًا بالغيرة وخوف الله، وتكون له شهادة حسنة ويعرف يدبر بيعة الله”.

ب. تركّز الرتبة على التواصل القائم بين المنتخب وقداسة البابا وغبطة البطريرك لأنّه تواصل رسوليّ يرجع إلى اختيار السيّد المسيح لرسله الذين عليهم بنى كنيسته. كما تصلّي الكنيسة حتى يتحلّى المنتخب بمواهب الروح التي تمكّنه من القيام برسالته.

وفي صلوات الرسامة التي يتلوها البطريرك على رأس المنتخب بمساعدة أسقفين هناك ابتهال متواتر إلى الروح القدس ليحلّ عليه ويزينه بالفضائل ولاسيّما الإيمان والحبّ والقوّة والقداسة.

وفي صلوات وضع اليدّ المباشرة، تفصّل الصلوات الثلاث المواهب المطلوبة.

ورد في الصلاة الأولى:

“إملأه حكمة ونعمة، وزيّنه بالإتّضاع والقوّة، والنشاط والسكينة، وامنحه أن يكون يقظًا وصبورًا، وضع فيه أفعال الروح القدس… ومواهب الروح القدس من أجل شعبك ولأجل اسمك القدّوس”.

وفي الصلاة الثانية: “…هّبه نعمة المعرفة والبلاغة، ليعظ ويرشد ويرد الخطأة إلى التوبة، ويرعى اليتامى، ويعطف على الأرامل، ويفتقد المرضى ويعزّي الحزانى ويوآسي المحتاجين ويشجّع الغرباء ويتمّم شرائعك الرسوليّة، ويسير بحسب مشيئتك…”.

وفي الصلاة الثالثة التي يتلوها البطريرك والأساقفة معًا: “بسلطان كلمتك أيها الربّ الإله… أرسل الآن روحك القدّوس الرئاسيّ على عبدك (فلان)، ليرعى البيعة ويدبّرها، ويسمّ فيها كهنة وشماسة، ويقدّس المذابح والكنائس، ويبارك البيوت، ويحلّ ويربط، ويثّبت شعبك وخراف رعيتك…”.

ج. إنّ هذه المواهب التي تفصّل مهمّات التقديس والتدبير، تُتوّج بالعبارات التي يتوجّه بها البطريرك المحتفل إلى الأسقف الجديد عندما يهّم بتقليده الملابس والشارات الحبريّة، فيقول له:

“أيّها الأخ الحبيب… لقد تمّت رسامتك الأسقفيّة. فارتدِ الآن الثياب واحمل الشارات التابعة لها، لا لإعتبارات دنيويّة باطلة، بل لمجد الله الأعظم وبنيان البيعة المقدّسة”.

هذه الكلمات غنيّة بمعانيها التي تحدّد روحانيّة الأسقف بأهدافها الكبرى: تمجيد الله وبنيان الكنيسة، خاصّة في الأبرشيّة التي أؤتمن عليها. ولذلك عندما يتقيّد الأساقفة بمضمون الرسالة وأهدافها كما وردت في طقوس الرسامة، فإنّهم ليجدون فيها الدعامة الأساس لقداستهم ونجاح رسالتهم. فبإنصرافهم إلى تتميم ما يترتّب عليهم من مهمّات، متحلّين بصفات الراعي الصالح الذي دعاهم وقلّدهم السلطان ليتابعوا رسالته، لا يستطيعون إلاّ أن يكون همّهم بنيان الكنيسة والسعي إلى تمجيد الله في اعمالهم مبتعدين عن المجد الباطل الذي قد يغري، بما هم عليه من مكانة في المجتمع.

  1. أ. في رتبة جنّاز الأحبار تتمحور الصلوات حول محورين أساسيّين: المسيح والأسقف المنتقل إليه. فالصلوات بمجملها تتجه إلى المسيح الذي خطب البيعة وأقام لها الخدّام النشيطين، “وهو الذي سلّمهم السلطان الإلهيّ للتدبير والتعليم والتقديس” (صلاة البدء). ولقد ورد في الصلاة الثالثة: “أيّها الحارث الحكيم يا من نصبت البيعة المقدّسة كرمًا مختارًا، وبنيتها برج إيمان للشعوب كافة وجعلت فيها الأسرار ينبوعًا لا ينضب، وسيّجتها بسور العهد الجديد، ودفعتها إلى أيدي فعّلة ليعطوك الثمار في حينه… أهل… المنتقل إليك أن يسعد في الإنضمام إلى مائدتك السماويّة”.

وهناك ربط متواصل بين المسيح الحبر والراعي الحقيقيّ الحكيم وعظيم الأحبار والكنيسة التي أحبّها وخطبها وأقام لها الرعاة ليسهروا عليها. فالكنيسة هي كنيسة المسيح والرعاة هم خدّامها، وسيؤدون حسابًا أمام المسيح عن خدمتهم لها، لأنّها هي الكرم الروحيّ الذي دُعوا إلى العمل فيه.

ب. وعمل الرعاة، كما تصفه الصلوات، هو تنوير البيعة بالتعليم الإلهيّ، وطرد الذئاب منها، والتجارة بالوزنات، والسّهر ليلاً نهارًا بانتظار مجيء الربّ، وخدمة الأسرار ومحبّة الرعيّة، وحمل الصليب، والرعاية الصالحة، والجهاد الطويل… لذلك تطلب الكنيسة المجتمعة لوداع راعيها وتتوسّل الى المسيح ان يجازيه جزاء الأحبار الصالحين والرسل القدّيسين ليشاهد حقيقة الأسرار التي خدمها في الأرض، فينال الفرح وسعادة النعيم ويسكن مع الربّ الذي يتحنّن عليه ويضمّه الى أبناء النور.

ج. من هذه الجولة السريعة يمكن استنتاج الحقائق التالية:

الفصل الثاني

واقع الخدمة البطريركيّة والأسقفيّة الراهن

هذا النصّ الذي يعترف بوجود هذا الحقّ ويكرّسه، بقي دون تطبيق بالنسبة إلى كنيسة الانتشار حيث تغيّب عنها ولاية البطريرك كما أنّه لا يحيط بكلّ أبعاد المهمّة المميَّزة التي يقوم بها بطاركة الشرق، والدور الكبير الذي انتدبتهم له كنيستهم على المستويين الدينيّ والمدنيّ.

أوّلاً: البطريرك

1. الرمز والمرجع

2. المؤتمن على التراث

حافظ البطريرك مع شعبه المارونيّ طوال التاريخ على علاقة مميّزة مع روما وما زالت هذه العلاقة إحدى الثوابت الأساسيّة، ليس فقط في العقيدة بل في شتّى الحقول الكنسيّة والحياتيّة. وإذ يحرص البطريرك وهو يقود شعبه على توثيق علاقة الكنيسة المارونيّة في الشراكة القانونيّة وشراكة المحبّة مع كنيسة روما، يهمّه أن يتعاون تعاونًا وثيقًًا مع سائر الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة لكي تحمل كنيسته في محيطها الرسوليّ الكبير مع شقيقاتها شهادة حيَّة للإيمان الواحد وتزداد انفتاحًا على الكنائس الأخرى فتتبادل وإيّاها الآراء والخبرات لكي يسمع الجميع صوت المسيح وتصل الرسالة الإنجيليّة، رسالة الخدمة والمحبّة والعدالة والسلام إلى أبناء الشرق، وحيث ما تنتشر الكنيسة المارونيّة.

3. الحريص على الوطن

ثانيًا: الأساقفة

1. خدمة التعليم

ولا نجهل ما لوسائل الإعلام عامّة والدينيّة خاصّة من تأثير في هذا المجال، لذا لا بدّ من استخدامها بوفرة للتثقيف والتعليم والسهر على صحّة ما تنقله حتى يكون مطابقًا للعقيدة والأخلاق. ولقد تطرّقت الوثيقتان عن الإعلام والتنشئة الدينيّة إلى هذه الموضوعات، فلا مجال للتوسّع فيها الآن.

2. خدمة التقديس

3. خدمة التدبير

4. علاقات كهنوتيّة

5. راعويّة الدعوات الكهنوتيّة

يهتم العديد من الأساقفة اليوم بتنشيط الروح الإرساليّ عند الإكليريكيّين وهم لا يتردّدون بإرسالهم خارج البلاد وأحيانًا خارج انتشار الكنيسة المارونيّة ليساهموا بالدور الإرساليّ للكنيسة الجامعة، بعد أن يكونوا قد تعرّفوا إلى حاجات أبرشيّتهم وحاجات الكنيسة الجامعة. ويعي الأساقفة مسؤوليّتهم في منح سرّ الكهنوت لذلك يفحصون المقدمين إلى الكهنوت فحصًا دقيقًا سواء أكانوا من أبرشيّتهم أم أتوا من أبرشيات أخرى أو من الجماعات الرهبانيّة متشاورين مع المسؤولين عنهم ليقفوا على حقيقة أمرهم.

6. العلاقة بالرهبان والراهبات

ويحرص الأسقف دائمًا على تمتين أواصر الودّ والمحبّة مع هؤلاء الذين تركوا كلّ شيء في سبيل المسيح فيكون لهم الأخ الأكبر والمثال، بينما يحفظ الرهبان والراهبات في قلوبهم عاطفة الأبناء والبنات الصادقة للأسقف ويحرصون على التنسيق معه بما يخصّ الأعمال الرسوليّة وأحيانًا الأمور الماديّة المتعلّقة بالأبرشيّة والبشارة فيها. أمّا إذا حصل عدم تفاهم على أمرٍ ما، وأدّى إلى الخلاف، فالقوانين الكنسيّة المرعيّة الإجراء والدائرة القائمة في الكرسيّ البطريركيّ هي تتولى المعالجة[20].

7. مكانة العلمانيّين في اهتمامات البطريرك والأساقفة

وعزَّز الأساقفة التعليم الدينيّ في المدارس الكاثوليكيّة وفي المدارس الرسميّة وحرصوا على إنشاء لجنة للتعليم المسيحيّ في لبنان أوّلاً ثمّ في الشرق فكان همّها الأساس تنشئة المعلّمين ومدّهم بالوسائل التربويّة الحديثة لمواكبة تفكير النشء، وجعله يتقبّل بشوق وحماس البشارة المسيحيّة. ومع ذلك تبقى أمور كثيرة تنتظر تحقيقها في هذا المضمار أو ذاك وأنّ التحديات اليوم أكثر من أن تُحصى أمام انتشار الإنجيل وعيشه (راجع نصّ العلمانيّين والشبيبة).

8. الزيارات الراعويّة

في الزيارة الراعويّة يمارس الأسقف خدماته التعليميّة والتقديسيّة والإداريّة. كما تتيح له الاجتماع بالفاعليّات الحيّة على أرض الرعيّة وبخاصة المجالس واللّجان والأخويّات والحركات الرسوليّة. ويحرص الأسقف أثناء لقاءاته المتعدّدة بألاّ ينسى المقعدين والمرضى ومن هم بحاجة إلى إلتفاتة منه أو تشجيع. وتنجح الزيارات بقدر ما يتمّ إعدادها مع خادم الرعيّة ومن ينتدبه المطران لهذه المهمّة.

9. كنيسة الانتشار

أمّا الصعوبة الأخرى فهي النقص المتصاعد في الكهنة وفي الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة داخل كنيسة الانتشار. لكنّ الأساقفة بدأوا بمواجهة هذه التحديّات والصعوبات. والآمال معقودة على تعاون الأبرشيّات والرعايا فيما بينها من جهة، وعلى تكثيف الإتّصالات بينها وبين البطريركيّة من جهة ثانية (راجع نصّ: الكنيسة المارونيّة في انتشارها العالميّ).

الفصل الثالث: في سبيل تجدّد خدمة البطريرك والأساقفة

أوّلاً: روحانيّة البطريرك والأساقفة منطلق لتجديدهم

1. إنقياد للروح

2. تأصّل في الإنجيل

3. نهل من الكتاب المقدّس

إن الروحانيّة المارونيّة تتجذّر في الكتاب المقدّس، في عهديه القديم والجديد؛ ويصعب أحيانًا كثيرة، فصل النصّ الليتورجيّ عن النصّ الكتابيّ كما تصعب عند الأسقف المارونيّ فصل الحياة التأمليّة عن الحياة العمليّة، لذلك نجد مثلاً أنّ المخطوطات المارونيّة القديمة[21] تتضمّن المزامير المئة والخمسين التي كان الموارنة يتلونها كاملةً كلّ يوم، موزّعة على ساعات النهار والليل السبع. وقد نُشرت أيضًا تفاسير لأسفار التكوين والخروج والأحبار، منسوبة إلى مار أفرام السريانيّ. وهذا ما يؤكّد لنا انغماس روحانيتنا لا بل حياتنا كلّها، بالوحي الإلهيّ.

هذا الوحي يتجلّى باستمرار في البعد الثالوثيّ كما صاغته “بواعيث” الفرض الإلهيّ مع “الآب الذي أرسل ابنه إلى العالم، والإبن الذي حقّق الخلاص بموته وقيامته والروح القدس الذي كمّل ويكمّل جميع الأسرار”. هذا التقسيم اللاهوتيّ له أصداء كثيرة في القدّاس وفي الأسرار والرتب وفي كلّ ما يفعله الرأس لأنّه أساس إيماننا وصانعه، ومصدر روحانيتنا ومآلها، وموضوع رسالتنا، ومبرّر وجودنا الوحيد.

4. تذكر للتاريخ الأوّل

لقد انقطعوا عن محيطهم القريب ليصلوا إلى المبتغى الأوّل من جهة ويوصلوا أبناءهم وكلّ ذي إرادة طيّبة إليه من جهة أخرى متّكلين قبل كلّ شيء على نعمته لا على حكمة بشريّة منهم، متسلّحين بحرارة الصلاة، وكفاية العيش، مزيّنين بالإيمان المستقيم على الرغم من ارتفاع كلفته إذ سلخهم عن ذويّ القربى وعن الأرض الخصبة ودفع بهم إلى بلاد غريبة استوطنوا فيها أعالي الجبال وعمق الوديان والكهوف ليحموا خراف القطيع وكنز العقيدة الصحيحة.

5. غرف من المعين الليتورجيّ

إنّ البطريرك، “القيّم الأوّل” على الليتورجيا والأساقفة حرّاسها، والناهلين منها، يدركون أنّ على المتقدم في الجماعة في كلّ آن ومكان، أن يكون أوّلاً “متّصلاً بالخدمة” مع من سبقه “صحيح الإيمان” ليكون خليفة بطرس والرسل باستقامة الرأي والتعليم، ساعيًا باستمرار إلى التحلي بمحبًة “الآب” القدّوس مزيّنًا بحياة فريدة تدعوه من جهة إلى مقاسمة حياة يسوع الراعي وتجعله بشراكة مستمرًة مع الروح.

6. سير على خطى الآباء

وفي تاريخ كنيستنا يبقى الإيمان المتأصّل في الصليب[22] إحدى الثوابت الباقية على ممرّ الأيّام لذلك كانت الصفة الأولى لصلاة الرأس في الكنيسة، كما كانت عند الآباء الأنطاكيين، التكفير وغسل الخطايا. وبذلك يجد الحبر الدواء الخلاصيّ ودرب التوبة النصوح له ولأبنائه، من هنا تتزيّن صلاته الصباحيّة مثلاً بالمزمورين 50 (إرحمني يا ألله) و62 (إلهي، أنت إلهي) وهذا الأخير على حدّ قول يوحنّا فم الذهب: “ينعش حبّ الله، يوقظ النفس، ويلهبها بنار حيّة، ويملأها فرحًا ومحبّة، وحينئذ، نستطيع أن نقترب من الله…لأنّه، حيثما يوجد حبّ الله، تزول جميع الرذائل؛ وحيثما يوجد ذكر الله تتلاشى جميع الخطايا، ويمحى الشرّ”[23].

وإذا كان للأسقف ما يقرّبه لله، هو وكهنته ورهبانه وشعبه، فإنّما بكاء خطاياه وخطايا الجماعة باستمرار، إذ يردّد فيما يردّد: “خذّ هاتين الدمعتين الضعيفتين، وأعطني غفرانك العظيم” وإنّ الآباء بكوا إلى درجة أن “احتفر الدمع مجاري في خدودهم”[24]. هذه التوبة الشخصيّة تذكّر الأسقف بأنّه خادم لسرّ المصالحة الذي لا يتوانى عن قبوله هو شخصيًّا كواجب عميق كما يسهر على توزيعه، مع كهنته، على أبناء الأبرشيّة، لأنّه بذلك يعبّر عمّا كان يقوله الآباء باستمرار، عن سرّ الكنيسة، التي هي في ذاتها قديسة ولكنّها تتألّف من خطأة بحاجة إلى غفران الربّ باستمرار.

لكنّ التوبة والأصوام والتقشّف ليست غاية بحدّ ذاتها. إنّها الطريق إلى الفرح والرجاء والشكر لأنّها أوّلاً تحرّر النفس من ثقل العالم لتسلّمها إلى سلطان الروح وتحلّق بها ثانيًا لتضعها على أبواب الجنّة حيث يلتقيها عروسها السماويّ ليأخذها بين يديها ويدخل بها إلى المخدع السماويّ في بيت الآب لتكون معه إلى الأبد[25].

7. فقر رهبانيّ

حياة الإلفة بين الدير ومحيطه تنعكس اليوم خاصّة في روحانيّة قرب الأساقفة من أبنائهم وشراكة المسؤوليّة بينهم وبين السيّد البطريرك والتضامن بين جميع أبناء الأبرشيّة والكنيسة. أمّا في حياتهم الشخصيّة فلا ينسون أبدًا أنّ أسلافهم العابقة سيرتهم بحياة الدير والقداسة كانوا يبيعون تيجانهم وصلبانهم لإطعام المحتاجين ويمشون حفاة مرتدين ثياب الفقراء ويوزّعون حسنات قداساتهم على البؤساء[27].

8. إتكّال على مريم

فالكنيسة المارونيّة في ليتورجيّتها وكنائسها وأديارها، في نصوصها وتعابيرها، في سيرة أبنائها وأساقفتها وحياة قديسيها وقديساتها، ذات طابع مريميّ واضح. والعذراء التي يردّد نشيدها الموارنة حيثما حلّوا وأينما ارتحلوا مطلقين على البتول لقب “أمّ الله” هي سيّدتهم ومحاميتهم، شفيعتهم ومثالهم.

إنّ الأسقف عندما يأخذ مريم “في خاصته” (يو 19/27) أيّ في كلّ ما يعود إليه وإلى أبرشيته ماديًّا وروحيًّا إنّما يعتبر هذه الأمّ القديسة كنْزه الأثمن وغناه الأكبر وثروته الأعظم لأنّه يعتبر أنّ قبول مريم في حياته وقبول يسوع واحد. وهو يعرف أكثر من غيره أنّ المسيح ومريم باركا هذا الشعب في بساطته الفريدة وفي تعبيره الصّادق القلبيّ وتعلّقه الدائم بيسوع وأمّه.

مع مريم يواجه التحدّيات وما أكثرها، وبإيمانها العميق يتشبّه، وعلى مثالها يدخل في مشروع الله الخلاصيّ، متكلاً على هذه الأمّ التي لم يُسمع يومًا أنّ أحدًا إلتجأ إليها وخزي. لذلك كانت له مريم وستبقى أمًّا حنون، يرتاح إلى حمايتها متذكرًا أنّ أمّ الكنيسة هي خير أمّ لخلفاء الرسل أساقفة الزمن الحاضر.

9. شوق إلى حيث الربّ

هذا الرجاء الكبير المترسّخ في قلوب الموارنة الذي هو حلية كنيستهم، دفع جملة باحثين[29] في التراث المارونيّ إلى اعتبار روحانيّة هذا الشعب روحانيّة سبت النور والنّزول إلى الجحيم والسّهر والانتظار، وترقّب أحد القيامة بعد الجمعة العظيمة. فالموارنة مع رعاتهم لم يتعبوا خلال ليل تاريخهم المأساويّ الطويل من البكاء مع مريم الفائضة دموعها على الخدّين. وإذا كان لهم من تعزية فإنّما يجدونها في هذه الأمّ المصوّرة أمامهم وجسد ابنها الميّت في حضنها قبل أن يحتضنه القبر. لكنّ في قلب العذراء الراجية سيبزغ فجر القيامة الآتي.

10. محبّة أبويّة

إنّ سؤال الربّ لبطرس: يا سمعان بن يونا أتحبّني أكثر من هؤلاء (يو 21/15) يبقى بالنسبة إلى الأسقف سؤال العمر وسؤال اللحظة الحاضرة.

كما أحبّ يسوع الآب وترجم حبّه طاعة تعلّمها بالتضرعات والآلام (عب 5/7-8)، هكذا يحاول الأسقف أن يقتدي بالسيّد الذي هو موضوع شغفه الأكبر ـ جاعلاً من حبّ الآب غاية حياته ومعنى وجوده. حبّ يجسّده خدمة وبذلاً في سبيل أبناء الأبرشيّة والكنيسة لأنّ كلّ شيء في حياته يصبو إلى تشيّيد الكنيسة المقدّسة بحبّه[30].

وتفيض محبّة الراعي على المؤمنين وتترجم أهتمامًا بهم وانتباهًا لحاجاتهم وقربًا منهم، من جهة؛ ومن جهة أخرى، جهوزيّة وتواضعًا، وبساطة عيش وبذلاً. يعاش ذلك في شراكة مع البطريرك والمصاف الأسقفيّ وفي تناغم مع الشعب فتصبح عندئذ رسالة الأسقف حافزًا لهم للسير قدمًا نحو الملكوت وتشجيعًا لكلّ متردّد على الإقدام، وحياة خصب للأفراد والجماعات. ويبقى الأسقف، على مثال بولس، مشدودًا شدًا آسرًا إلى مجيء الربّ يسوع الحيّ القائم الممجّد، فيظهر في حياته الشخصيّة وخدمته الرسوليّة، غيورًا على خلاص المؤمنين، يخاطبهم ويعيش معهم بحرارة وعاطفة واندفاع (1 تس 2/7-12).

ثانيًا: تحديّات الزمان والمكان

1. مآسي الحروب والتشرذم في لبنان

2. الذوبان في المحيط الأوسع

أمّا كنيسة الانتشار فهي أيضًا معرّضة لمزيد من التشتّت كما أشار إليه بإسهاب نصّ الكنيسة في انتشارها العالميّ.

3. الأخطار الداخليّة[31]

كما يلاحظ البطريرك والأساقفة اتّساع الجهل المخيف في المعرفة الدينيّة لدى كثيرين من أبنائهم الذين لا يفقهون إلاّ القليل من العقيدة المسيحيّة سيّما وإنّ منهم من تخرّجوا من المؤسّسات التربويّة الكنسيّة. إلى هذا الجهل الدينيّ هناك تراجع في الثقافة والإنسانيّات على الرغم من مناهج تعليميّة متقدّمة جدًّا وربّما يعود ذلك إلى وسائل الاتصال الحديثة التي تروّج خاصّة للمال والسلطة والنجوميّة والمتعة الجنسيّة أكثر بكثير من الفكر والحضارة والعلوم والدين. ويتألم الرعاة أيضًا من غلبة قيم النجاح السريع والشطارة والرخاء واللّذة على قيم المثابرة والجديّة والقناعة والعفاف.

ثالثًا: معالم الرجاء

1. إستلهام المؤسّس

2. تمتين الوحدة والشراكة

مع بطريركهم يؤلّف الأساقفة، الحلقة الأسقفيّة المناط بها مهام التقديس والتعليم والتدبير التي تمارس ضمن الشراكة الواحدة، لأنّ بنية الكنيسة المارونيّة هي في الأساس بنية مجمعيّة. لذلك فالخدمة الرسوليّة في كنيستنا تحمل طابعًا جماعيًا لأنّ المسؤوليّة بالنهاية يتحمّلها الجميع فعلى الجميع المشاركة في اتخاذ القرار.

3. التشبث بالروح المجمعيّة

إنّ روح الشراكة تتخطّى النظر في القضايا الظرفيّة والأمور السياسيّة الطارئة إلى استعراض المشاكل ومصادر القلق والقضايا الّتي تهم المجتمعات الّتي يقيم فيها الموارنة. فتعمل عندئذ الكنيسة بما تمليه عليها طبيعتها كمعلّمة ومقدّسة ومدبّرة ملتزمة بشعبها ومضطرة للإجابة على تساؤلاته العميقة الّتي تعنيه كأفراد وكجماعات.

4. حمل كلمة الخلاص من قبل جماعة حيّة

إنّ روح الشراكة تدعو إلى التفكير معًا لتشخيص الواقع ووضع الخطط والتدابير الّتي تدفع كل مؤسّسة في الكنيسة الى أن تفعل ما يجب عليها فعله. وبهذه الطريقة تجعل الكنيسة المارونيّة من مجلس الأساقفة حول البطريرك ومن كهنتها ورهبانها وراهباتها وسائر فاعليّاتها جماعات حيّة واعية لما هي عليه وتسعى، بالتزام وجديّة، لتصنع الحقيقة بالمحبّة في سبيل تحقيق هويّتها ورسالتها متّكلة بذلك على سيّدها وعلى قوى تاريخها وتقليدها وقدّيسيها وشعبها.

5. تعزيز الروح المسكونيّة

6. الإغتناء من التراث وإغناؤه

وبما أنّ لأساقفة الانتشار دورهم في نقل تراث المارونيّة إلى حضارات ولغات جديدة فهم مؤهّلون أكثر من غيرهم أن يوظّفوا هذا التراث في خدمة الكنيسة وفي حضارة التلاقي بين الشعوب.

7. العيش المشترك

8. ثبات وشهادة

9. توسيع ولاية البطريرك

10. رسالة عالميّة

هذا يعني أنّ المارونيّة تتخطّى حدود الأوطان لتصل إلى دور الكنيسة الجامعة. وفي دورها هذا تظهر عمل الله في التاريخ وفي العالم؛ فالبطريرك والأساقفة على حدّ قول البطريرك الدويهي: “يسلّطون تدبير الله على مناطقهم” وأبرشيّاتهم بالأساس، ويقودون شعبهم ليشهدوا لفعل الله هذا وقصده في كلّ مكان وزمان.

لذلك يشجّع البطريرك والأساقفة انفتاح الكنيسة على الرسالة الجديدة التي تطلقها إلى أبعد من حدودها المألوفة. إنّ الانفتاح على “البعد الإرساليّ” وشدّ الأواصر بين الكنيسة في النطاق البطريركيّ وفي الانتشار يبلوران الصلة بين الكنيسة في النطاق البطريركيّ وفي بلاد الانتشار ويجعلون للكنيسة المارونيّة مكانًا مميّزًا على الخريطة الإرساليّة.

11. رؤية موحّدة

إنّ قوّة الموارنة هي في الأمانة للجذور والينابيع التي انطلقت منها المارونيّة كما قال البطريرك الدويهي إنّ الأصل هو المصدر الذي تتفجّر منه كلّ ما في المارونيّة من حيويّة وقوى لاهوتيّة وروحيّة تغذّي رسالتها في العالم. لكنّ هذه القوى تبقى إمكانيات تنادي من يجسّدها ويوسعها. إنّها تحتاج إلى قدّيسين وأبطال وعلماء ليظهروها ويؤونوها خدمة للكنيسة.

12. الكلّ لا ينسي الجزء

13. رسم سياسة رعوية

من هنا تأتي حاجة البطريرك والأساقفة مجتمعين وكلّ ضمن أبرشيته، إلى ترسيم سياسة جديدة لنشر البشارة الإنجيليّة تنطلق من كون الأسقف هو رأس لجسد حيّ وعليه أن يتأكّد من وجود هذا الجسد الحيّ مهما كان صغيرًا فيعمل معه في سبيل نهج رعويّ جديد يقوم في ما يقوم على:

خاتمة

جاء في الرّتبة ما يلي: “يقرأ [البطريرك] السلام لجميع الحاضرين ويختمهم بالصليب لكونهم مدهونين به. وبعد تقدمة الشكر لله يصعد على المنبر […] فيرشم في الميرون ثلاث صلبان إلى كلّ واحد من أربع أوجاه الدنيا، رسمًا إلى السيّد المخلّص الذي، عند صعوده إلى جبل الزيتون رفع يديه وبارك تلاميذه، وأعطاهم الأمر أن يخرجوا إلى أربع أقطار الأرض ويتلمذونهم ويعمدونهم باسم الثالوث المقدس، فيستحقّون الدخول إلى أورشليم العاليّة التي لها ثلاث أبواب مفتوحة على كلّ واحد من أربع أوجاه الدنيا”[32].

هذه هي الكنيسة المارونيّة في أبهى صورها. خرجت من الميرون، الذي قدّسه بطريركها المحاط بالأساقفة والإكليروس والشعب، حاملة إلى العالم إنجيل سيّدها المسيح ومختومة بصليبه. هذا الختم، الذي لم يفارقها أبدًا هو أيضًا “قوّتها ودرعها لمناضلة العدوّ”. بهذا الصليب يدعو السيّد البطريرك جميع أبنائه ليختموا “أربع أوجاه الدنيا”. فيكون لهم الجسر الذي يعبرون عليه نحو “أورشليم العليا”[33].

توصيات النصّ وآليات العمل

الموضوعالتوصيةالآليّة
1- الرياضة الروحيّة السنويّة.  1- نظرًا إلى أهميّة الرياضة الروحيّة السنويّة في حياة المطارنة وتجدّدهم الراعويّ، تقرّر فصل الرياضة عن المجمع.1- يخصّص وقت للرياضة ووقت آخر للمجمع في بداية شهر حزيران من كلّ سنة.  
2- الشارات الحبريّة.  2- تبسيط الشارات الحبريّة لتتلاءم مع روح البساطة الإنجيليّة.  2- يعتمد تاج بسيط مع كتابة ورموز سريانيّة، وعصًا معدنيّة أو خشبيّة تعلوها الكرة الأرضيّة المتوّجة بصليب على سبيل المثال…
3- الزيارات الراعويّة.  3- نظرًا إلى ما تشكله الزيارات الراعويّة من فرصة للتعرّف إلى الناس، لا بدّ من تكريس وقت كافٍ لها من أجل الوقوف على أحوال الرعيّة.3- تمتّد الزيارة إلى الرعيّة من يوم إلى عدّة أيّام، فيجتمع فيها الراعي مع مختلف الفئات والهيئات، ويطلع على كلّ النشاطات، ويتفقد المرضى.
4- المشاركة في المسؤوليّة.4- تعزيز عمل المؤسّسات والمجالس العلمانيّة والإكليريكيّة.  4- تدارُس جميع القرارات التي تهمّ الأبرشيّة مع الهيئات المختصّة وتفعيل المجالس التي ينصّ عليها القانون.
5- الحياة الروحيّة في المطرانيّة.5- يسهر المطارنة على إنعاش الحياة الروحيّة في مراكزهم.5- صلوات وقداسات مشتركة مع كهنة المطرانيّة إذا وجدوا.
6- روح الفقر وبساطة العيش.  6- يعتمد المطارنة في حياتهم بساطة العيش وروح الفقر.  6- بالإضافة إلى بساطة العيش، يخصّص كلّ مطران جزءًا ممّا يتوفّر له من مداخيل لمساعدة المحتاجين، ولدعم صندوق الكاهن في الأبرشيّة.

1. مخطوط بكركي 1 (1670): كتاب الرسامات.

2. كتاب الشرطونيّة ـ نسخة المطران بولس عواد 1915 المنقولة عن شرطونيّة بكركي، ص. 167.

3. 1 بطرس 5/1 – 4.

4. كتاب الشرطونيّة، ص 187.

5. المرجع ذاته، ص 191 – 192.

6. المرجع ذاته ، ص 196.

7. رتب الدويهي – مخطوط الفاتيكانّ السريانيّ 312 (1683)، الفصل الثامن 12 ب.

8. رتب الدويهي – مخطوط الفاتيكانيّ السريانيّ، ص 111 – 112.

9. ترجمة عن السريانيّة القس يوسف حبيقة البسكنتاويّ الراهب اللبنانيّ.

10. المرجع ذاته، الفصل 23، ص 72 – 73.

11. الهدى، نشرة الأباتي بطرس فهد، ص 201 – 205.

12. عيّن الراهب أشعيا، من دير قزحيا، رئيسًا على دير مار يوحنّا الكوزبندو في جزيرة قبرس، كما هو مدوّن على إنجيل رابولا.

13. راجع: التلمحري وسعيد ابن البطريق والمسعودي (التنبيه والأشراف) لقد أورد هذه المراجع الأستاذ جوزيف زياده في كتابه:

La Hiérarchie Maronite. Sa résidence CAL Editeur 1955, p.8

14. راجع مجلّة المنارة، العدد الأوّل سنة 1983، صفحة 168.

15. شرطونيّة المطران بولس عواد، رتبة وضع اليدّ على الأسقف والمطران.

16. كتاب ميمر الكهنوت، ص 75.

17. كتاب ميمر الكهنوت، ص 104- 135.

18. راجع: مرسوم في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، عدد 7.

19. راجع: نص الليتورجيا.

20. راجع قوانين الكنيسة الشرقيّة، ق 284 و415.

21. راجع مثلاً: مخطوط فلورنسا 1 ـ 12 من سنة 1318 (المرجع ذاته ص 86 ـ 87).

22. راجع: بخصوص روحانيّة البطريرك والأسقف محاضرة الأباتي يوحنّا تابت، “خصائص الليتورجيا الأنطاكيّة”، الإثنين 3 آذار 2003، منشورات جامعة الروح القدس ـ الكسليك، فمنها تستوحى معظم الأفكار الواردة في هذا القسم.

23. المرجع ذاته، ص 80.

24. المرجع ذاته، ص 89، يضيف الأب ميشال الحايك في مقاله عن الروحانيّة المارونيّة أن هناك تقليدًا يؤكّد على أنّ دموع النسّاك التائبين هي في أساس مياه وادي قنوبين كما أنّ المخيّلة الشرقيّة تشبه دموع التوبة بمياه المعموديّة، غاسلة الخطايا.

25. راجع: Michel HAYEK, “Maronite (Eglise). 1. Histoire. 2. Sources de la spiritualité. – 3. Grandes articulations de la spiritualité”, Dictionnaire de Spiritualité, tomeX, col. 631-644 (col. 644).

26. المرجع ذاته، col. 639.

27. راجع: الخوري فريد حبقوق، “سيرة البطريرك يوسف التَّيان”، صوت الراعي العدد 21 (تشرين الثاني 2004)، ص 48- 49.

28. المرجع ذاته، ص 87.

29.                        Jean TABET, l’Eschatologie dans l’office maronite, dans Parole de l’Orient, II/1 (1971), p. 5-29.

Marcel HADAYA, l’office maronite du Samedi Saint, Kaslik, Liban, 1995.

Michel HAYEK, Maronite (Eglise), dans Dictionnaire de Spiritualité, t. X, Beauchesne, Paris, 1980, col, 627-644.

L’Abbé Youssef SAMYA, Maronites au présent, Libanica III, coll dirigée par Youakim MOUBARAC, Cariscript, Paris, 1991, p. 30.

30. راجع: البابا يوحنّا بولس الثاني، “رعاة القطيع”  2003، ص 33.

31. المقطع السابق مع المقطع الحاليّ مستوحان بمعظمهما من الأفكار التي وضعها الخوري يواكيم مبارك والتي نشرها في كتاب بالفرنسيّة يحمل العنوان: “الموارنة في الزمن الحاضر” وورد ذكره أعلاه.

 L’Abbé Youssef SAMIA, Maronites au présent, Libanicus III, Cariscript, 1991

32. راجع: يوحنّا تابت، مدخل إلى ليتورجية البطريرك، ص 120.

33. المرجع ذاته، ص 122.