عظة البطريرك الراعي في الأحد التاسع من زمن العنصرة
أخبار عظاتالأحد التاسع من زمن العنصرة: برنامج الرسول

الديمان – الأحد 3 آب 2025
“روح الربّ عليّ، مسحني وأرسلني” (لو 4: 18).
1. طبّق الربّ يسوع عليه نبوءة أشعيا التي سمعناها. فهي تظهر هوّيته ورسالته، هوّيته هي مسحة الروح القدس. ورسالته مثلّثة: النبوءة، والكهنوت، والملوكيّة. فهو نبيّ بامتياز لأنّه يعلن كلمة الله، وهو نفسه هذه الكلمة. وهو كاهن بامتياز لأنّه الكاهن والذبيحة، إذ يقرّب ذاته ذبيحة فداء عن خطايا البشريّة جمعاء. وهو ملك بامتياز، لأنّه يعلن ملكوت الله، وهو ذاته هذا الملكوت.
وقد أشرك كنيسته، جسده السرّي، بهذه الهويّة والرسالة، اللتين تشملان كلّ مؤمن ومؤمنة بحكم سرّي المعموديّة والميرون. فيشرك هؤلاء في كهنوته العام، الذي منه يختار من يقيمهم في كهنوت الدرجة المقدّسة: الشمامسة والكهنة والأساقفة.
بهذه الشركة في الهويّة والرسالة، لا يُطلب من المؤمن أن ينعزل أو يتقوقع، بل أن ينخرط في بناء عالم أكثر إنسانيّة، ويشعّ نورًا في ظلمات هذا العالم.
2. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا للإحتفال معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، التي نحيي فيها هويّتنا المسيحيّة ورسالتنا، ملتمسين إدراكهما والالتزام بهما. وفيما نهار غد يتزامن مع الذكرى الخامسة لتفجير مرفاء بيروت، وهو الأعظم في تاريخ البشريّة بعد هيروشيما، نصلّي أوّلًا لراحة نفوس الضحايا، وشفاء المرضى والمعوّقين الكثر، ونعزّي أهل الضحايا والمصابين والمتضرّرين على اختلاف فئاتهم. وإنّا نطالب القاضي البيطار بممارسة صلاحيّاته القضائيّة كاملة، إظهارًا للحقيقة، وصونًا للعدالة، وضمانة للقضاء الحرّ الذي يعلو الجميع من دون أيّة حصانة.
3. هويّة يسوع هي هويّة الكنيسة والمعمّدين، ورسالته هي رسالتهم. بمسحة الميرون أشركهم الربّ يسوع بهويّته، وأرسلهم لمتابعة رسالته في النبوءة والكهنوت والملوكيّة.
أمّا النبوءة فظاهرة في نبوءة أشعيا: “أرسلني لأبشّر المساكين وأعيد البصر للعميان”. فبالكلمة يستنير أولئك الذين أعمتهم الخطيئة، وأولئك الذين يتخبّطون في أهواء العالم، بعيدين عن الله وحبّه والإستنارة بنور كلامه.
وأمّا الكهنوت في تعبير أشعيا: “أرسلني لأشفي منكسري القلوب، وأحرّر المأسورين”. بالخدمة الكهنوتيّة يمنح الغفران للتائبين، ويحرّرهم من قيود الخطيئة ومن أميالهم الرديئة.
وأمّا الملوكيّة: “وأعلن زمنًا مرضيًّا للربّ” هو زمن الحقيقة والمحبّة والسلام.
إنّ الإنجيل الذي سمعناه ليس نصًّا من الماضي، بل دستور يوميّ، وخريطة طريق للإنسان الجديد، ولكلّ من مُسح بمسحة الروح ليشعّ نوره في عالمه حيث يعيش. فقد أصبح نبيًّا يتكلّم الحقّ، وكاهنًا يقدّم ذاته حبًّا وخدمة، وملكًا يملك بالعدل والرحمة. وهكذا إنّ دعوة كلّ مؤمن أن يعيش هويّته بالعمق، ويجسّد رسالته في محيطه: في عائلته ووطنه وكنيسته وعالمه.
4. إنّ زمن العنصرة الذي نعيشه في هذه المرحلة من السنة الطقسيّة، هو زمن حلول الروح القدس الدائم على الكنيسة، وهو زمن التجدّد الداخليّ والرساليّ. وها إنجيل اليوم يبيّن كيف تبدأ كلّ رسالة أصليّة من مسحة الروح.
فكما كانت بداية رسالة يسوع بالروح، كذلك كلّ قدّاس نحتفل به هو استمرار لهذه المسحة: ففي الإفخارستيا نمسح بالكلمة وبجسد الربّ ودمه، لكي نُرسل إلى العالم. كلّ قدّاس هو إرسال، وكلّ إرسال ينبع من سرّ المذبح والجماعة المصليّة.
5. في إطار الهويّة والرسالة، للبنان أيضًا هويّته ورسالته. فهويّته نابعة من تنوّعه الغنيّ، ومن تاريخه المشرقيّ، ومن دوره الرياديّ في الحريّة والتعدّديّة. أمّا رسالته فأن يكون أرض تلاقٍ وحوار. وجسر تواصل بين الأديان والثقافات، ومنارة فكر وحريّات في محيط كثير العتمة.
ونتساءل: هل لبنان باقٍ وفيًّا لهويّته؟ وهل يحمل رسالته بشجاعة ومسؤوليّة؟ كلّنا مدعوّون، مسؤولين ومواطنين، إلى أن نعيد للبنان وجهه الحقيقيّ، نعيد إليه العدل، ونطلق فيه الحريّة، ونفتح أمام شبابه أبواب الرجاء، ونبني دولة تليق بتضحيات الآباء وبأحلام الأطفال. على كلّ مسؤول أن يدرك أنّ المسؤوليّة ليست تسلّطًا بل خدمة، وأنّ الزعامة ليست مصلحة بل شهادة. فليكن في قلوبنا إصرار روحيّ وأخلاقيّ على أن ننهض بوطننا، ليس بالكلام فقط، بل بالأفعال والمثابرة، وبحكمة من يتعلّم من الألم، ويصنع من الجراح رجاء جديدًا. يريد الربّ يسوع من كلّ مؤمن ومؤمنة أن يكونا صوتًا للحقّ، وخادمين للمصالحة، وبناة للعدل. هذا ما يحوّل كلّ مواطن صالحًا، وكلّ مسؤول حاملًا رسالة تتخطّى الحسابات والمصالح الضيّقة.
إنّ لبنان لا يقسّم المواطنين بين أقليّات وأكثريّات. فمثل هذا المنطق يخفي نزعة نحو السيطرة والغلبة، لا المشاركة الحقيقيّة، لأنّ دولتنا المدنيّة لا تفرز المواطنين إلى أكثريّات وأقليّات. فالأساس يبقى المواطنة الشاملة.
6. فلنرفع صلاتنا إلى الله لكي يسكب روحه القدّوس على كنيسته وشعبه، ويجدّد هويتنا ويقوّي رسالتنا، ويجعلنا نعيش نبؤتنا وكهنوتنا وملوكيّتنا، ويحرّرنا من الخوف والخمول، ويلهمنا الجرأة والخير والصدق في الشهادة، والإلتزام في الحقّ. ونمجّده مع ابنه الوحيد، وروحه القدّوس، الآن وإلى الأبد، آمين.