النص الخامس عشر: الكنيسةالمارونيّة وعالم اليوم

المجمع البطريركي الماروني 2003-2006


النص الخامس عشر: الكنيسةالمارونيّة وعالم اليوم


توضيح

يعتبر هذا النصّ بمثابة مقدّمة للملفّ الثالث، يرسم أُطره ويطرح الإشكاليّات العامّة التي تتناولها النصوص المختصّة. وهو يكتفي بطرحها على نحوٍ شامل، من باب تحديد موقف الكنيسة المارونيّة من عالم اليوم، وما يملي من تحدّيات وسبل التعامل مع التحوّلات والتطوّرات المستجدّة في عالمنا، على أن يتمّ التداول في تفاصيل المواضيع المطروحة من خلال النصوص المختلفة التي تؤلِّف الملفّ الثالث.

مقدّمة

  1. الكنيسة، سرّ المسيح المتجسّد، هي واقعٌ إلهيّ وإنسانيّ يُعاش في نطاق الزمان والمكان، بأبعادِه التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة والحضاريّة. لقد ورد في رسالة البابا بولس السادس إرشاد رسوليّ من أجل إعلان الإنجيل أنّ “الكنيسة المنتشرة في جميع العالم” تصبح مجرّد نظامٍ ما لم تكن مجسّدة وحيّة في كنائس خاصةً[1]. فالكنيسة حضور يعبّر عن نفسه عبر تراثات ثقافيّة ولغات معيّنة وتكوين إنسانيّ خاصّ.

تكون الكنيسة كنيسة المسيح حقًّا بقدر ما تكون علامةً لمحبّة الآب الخلاصيّة للبشر بنعمة السيّد المسيح وبقوّة الروح القدس. حضورها يعني أن تكون، في وسط المجتمع الذي تعيش فيه، علامةً لحضور الله في العالم. فالجماعة المسيحيّة تتميّز بموقفها الروحيّ قبل كلّ شيء، حيث يقف المرء أمام ربّه محاورًا، فتسمو نفسه ويطهر قلبه ووجدانه فينعكس ذلك على حواره مع نفسه وعلى حواره مع الآخرين، أفرادًا وجماعات.

لقد حدّد السيّد المسيح معنى الحضور المسيحيّ في العالم بقوله: “تكونون لي شهودًا”، واستجاب الرسل لتلك الدعوة: “ونحن شهودٌ على ذلك”.

ولقد عبّر قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني عن هذا الوجه من الحياة بقوله: “الوجه الأوّل للرسالة هو شهادة الحياة المسيحيّة التي لا غنى عنها. المسيح، تتابع رسالته، هو الشاهد المثاليّ ونموذج الشهادة المسيحيّة. إنّ المسيحيّين يندمجون في صميم حياة شعوبهم. وهم “آيات” إنجيليّة بأمانتهم لوطنهم وشعبهم وثقافتهم الوطنيّة، مع الاحتفاظ بالحرّيّة التي أكسبهم إيّاها المسيح”[2].

في ضوء ذلك، لا يكون حضور الجماعة المسيحيّة في العالم من أجل ذاتها بل من أجل أن تبقى شاهدةً وصاحبة رسالة هي رسالة مؤسّسها ومعلّمها بالذات.

وهذه التحوّلات تطرح عليها السؤال الكبير عن كيفيّة عيش مبادئ الإنجيل والشهادة له في عالمٍ متغيّرٍ وَعِرِ المسالك، فيُعاد الاعتبار للإنسان، كونَه قيمةً أُولى، ولدعوته، كونَه صورةَ الله وعلى مثاله.

الفصل الأوّل: العالم الذي تنتمي إليه الكنيسة المارونيّة

والتحوّلات التي طرأت عليه

أوّلاً: العالم الذي طَبع الهويّة المارونيّة ودعوة كنيستها

ثانيًا: التحوّلات التي طرأت على العالم الذي تعيش فيه الكنيسة المارونيّة

فعلى الصعيد اللبنانيّ، كانت الكنيسة المارونيّة إبنة بيئتها التي تمثّلت بالمجتمع الزراعيّ في جبل لبنان وبالعلاقة الحميمة التي قامت بين الموارنة والأرض، إلى حد أنّ أسماء عائلاتهم اقترنت مدّةً طويلة بأسماء أراضيهم وقُراهم. فمنهم البشرّانيّ والإهدنيّ والعاقوريّ والحاقلانيّ والحصرونيّ والبجّانيّ والعمشيتيّ وغيرهم، كأنّ الأرضَ هي شجرةُ العائلة عند الموارنة. ومع النـزوح من الريف إلى المدينة وتطوّر نمط العيش، تحوّلت المقوّمات الاقتصاديّة من زراعيّة حِرَفيّة إلى اقتصادٍ مبنيٍّ على الخدمات والمواصلات والبورصة والتكنولوجيا الحديثة. وهكذا تحوّلت علاقة الموارنة بالأرض، وهذا موضوع يتطرّق اليه بإسهاب النصّ 23.

لقد تحوّلت الكنيسة المارونيّة إلى كنيسة عالميّة يفوق عدد أبنائها المنتشرين عدد المقيمين في لبنان والنطاق البطريركيّ. ولعلّ هذه الظاهرة تواجه الكنيسة المارونيّة بتحدٍّ جديد، ألا وهو استنباط مهمّتها ودعوتها في عالم اليوم، وتحويل انتشارها في العالم إلى مصدرِ رجاءٍ وقوّةٍ لها ولأبنائها.

  1. كذلك، فإنّ التحوّلات الجيوسياسيّة التي طرأت على العالم العربي أثّرت وتؤثّر سلبًا في مصير الموارنة. فالحروب التي توالت من دون هوادة في الشرق الأوسط، منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، تمثّل عاملَ افتقارٍ وتخلّف. كما أنّ الخيارات الاقتصاديّة التي اتّبعَتْها دول المنطقة كان لها تأثيرها السلبيّ في وضع شعوب المنطقة بقدر الخيارات العسكريّة. وإنّ المستجدّات والصراعات والأزمات والمعضلات السياسيّة التي تجتاح العالم العربيّ في طليعة القرن الحادي والعشرين، التي تتّسم بطابع دوليّ، لاسيّما منذ أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتّحدة وما تلاها من حربٍ في العراق وتفاقم الصراع العربيّ-الإسرائيليّ وتنامي الأصوليّة الإسلاميّة، حوّلت منطقتنا إلى بؤرة صراعات دوليّة تُضني شعوبه وتقلق العالم. هذه التطوّرات، إضافة إلى التحوّلات الجيو-ديموغرافيّة التي طرأت على وضعِ مسيحيّي الشرق، بمن فيهم الموارنة، أدّت إلى فقدان الثقة وتعزيز القلق والهجرة لدى عددٍ كبيرٍ من أبنائهم. وهذه الظاهرة إلى تفاقمٍ إذا لم تُعالَج أسبابُ الأزمة التي تطال كلّ أبناء المنطقة وبلدانها.
  2. أمّا على الصعيد العالميّ، فقد دخلت الإنسانيّة عصر العولمة وتحوَّل العالم، بفضل وسائل الاتّصال الدائمة التطوّر، إلى “قريةٍ كبيرة”، مفتوحة الآفاق والحدود، متعدّدة الثقافات والديانات، تتواصل أطرافها وتتفاعل في ما بينها وتؤثّر جزئيّاتهُا في مجمل الجسم البشريّ تأثيرًا متبادلاً، وأصبح عالم اليوم وحدة متواصلة.

وفي مطلع الألفيّة الثالثة، تُحرَّك البشريّةَ طموحاتٌ عظيمة تسعى لإنشاء نظامٍ عالميٍّ جديد مبنيّ على صيانة حقوق الإنسان والشعوب والديموقراطيّة والحريّات العامّة. وإذا كان الهدفُ الساميّ خَلْقِ مناخٍ هادئ ومُنشرح ومُنفرج تستطيع العائلة البشريّة من خلاله أن تعالج مشاكلها الكثيرة، ولكنّ المستعصية في العالم الثالث، إلاّ أنّ الوصول إلى الغاية المبتغاة تعترضها مشاكل جمّة. فوجدت الكنيسة الجامعة نفسها أمام تحدٍّ في الزمن الحاضر، لأنّها معنيّة بمسيرة التاريخ ولا يمكن أن تبقى محايدةً إزاء ما يجري حولها. “إنّ تضامن البشريّة في السّراء والضّراء هو إحدى العلامات الكبرى التي يعيش عالم اليوم في ظلّها”[3]. وقد أصبح التحدّي الأكبر الذي تواجهه الإنسانيّة اليوم، هو أن تعيش مختلف الثقافات والاثنيّات والديانات معًا،استنادًا إلى مبدإ التمايز للتكامل.

فإنّه من سِمات عالمنا اليوم وَعْيُ الشعوب لفرادتها وأصالتها “وكثيرًا ما يؤدّي ذلك إلى صعوبة التوفيق بين هذا الوعي ومتطلّبات السلام وحسن الجوار، داخل الوطن الواحد وبين مختلف البلدان والمناطق، ممّا يعكِّر صَفْوَ العلاقات البشريّة ويفجِّر الأزمات فتتحوَّل غالبًا إلى اقتتال دامٍ”[4].

هذه المتغيّرات التي اقترنت بالتحوّلات الدوليّة في المدّة التي تلت الحرب الباردة، أدّت، في غالب الأحيان، إلى حروبٍ وصراعاتٍ عنيفة، وصولاً إلى ظاهرة الإرهاب العالميّة. فإنّ التجاذب بين ظاهرتَيْ انفتاح العولمة وانغلاق الفرادة الإثنيّة يهدّدان بإضعاف دور الدولة والأنظمة السياسيّة الديموقراطيّة التي تحمي التعدّدية والمشاركة.

ثمّ إنّ قضيّة الإنماء أمست مُلحّةً وتستوجب التضامن الإنسانيّ والدوليّ مع البلدان الفقيرة، التي تكوِّن ثلثَيْ الإنسانيّة. ومسؤوليّة تقليص الهوّة بين الدول المتطوّرة والدول النامية تقع على الإنسانيّة بأسرها، عبر منظّمة الأمم المتّحدة. كذلك، فإنّ موضوع البيئة يفرض نفسه بقوّة على ضمير الأرض والإنسانيّة ومصيرها، في ضوء التعدّيات المتواصلة على الطبيعة وقضيّة التلوّث والإشعاعات الكيمائيّة التي طالت الفضاء وأثّرت في التقلّبات المناخيّة وارتفاع مستوى البحور.

الفصل الثاني: التحدّيات المطروحة

أولاً: في العالم الذي نعيش فيه

  1. إنّ عالم اليوم عالمٌ مدعوٌ لمواجهة التحوّلات الجيوسياسيّ‍ة والاكتشافات العلميّة المذهلة والتطوّرات التقنيّة. وهي، على كونها محطّات بارزة في تطوّر الإنسانيّة، إلاّ أنّ تحدّي التكنولوجيا والاستنساخ والذكاء الاصطناعي يثير تساؤلات عميقة تتعلّق بمصير الإنسان. فكيف نردّ الإنسان إلى إنسانيّته، هو المخلوق على صورة الله، وقد أضحى، في مَنطق التزاحم الاقتصاديّ، سلعةً أو أداة استثمار أو “موارد” بشريّة؟

ففي موازاة التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ والمعلوماتيّ، يشهد العالم تراجعًا، إن لم نقل انهيارًا، للقِيَم العائليّة والمسيحيّة والإنسانيّة (الإيمان والفضائل والعادات والتقاليد السامية التي كانت تنتقل من الكبار إلى الصغار في العائلة). لذا، يجب أن يعمل الإنسان لاستثمار النتاج التكنولوجيّ في خدمةِ إنسانٍ أفضل، وليس لإفراغ الفرد من القِيَم الحضاريّة والدينيّة التي تعرّف وتحدّدها إنسانيتنا.

يواجه الإيمان اليوم تحدّيّات حقيقيّة ناجمة عن التغيّرات الحاصلة في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإعلاميَّة، في الوقت الذي نشهد تناميًا للتطرّف العقائديّ، أدينيًّا كان أم قوميًّا أم إثنيًّا، في الحياة العامّة وفي البلدان كافّة.

ويأتي في مقدّمة تحدّيّات العولمة ضربُ القِيَم الأخلاقيّة والميزاتِ الثقافيّة الخاصّة بالشعوب وتفشّي الروح المِرْكَنتيليّة والاستهلاكيّة، مما أدّى إلى انقلاب سُلَّم الأولويّات في عالمٍ سيطرت فيه الماديّة والوصوليّة، على حساب الكرامة والمبادىء العامّة. هنا تبرز أهمّيّة دور وسائل الإعلام (المكتوبة والمرئيّة والمسموعة) والإعلان التي اتّسع مداها وأصبح لها تأثير مباشر في النفوس من خلال ترويجها عاداتٍ وممارسات لم يألِفُها العالم من قبل.

  1. ومن أبرز المخاطر التي تهدّد المجتمعات، بما فيها المجتمع الشرقيّ الذي تعيش فيه الكنيسة المارونيّة أو الذي تستوحي تقاليدها ومبادئها منه:
  2. الإباحيّة التي تنشرها وسائل الإعلام المرئيّة والإنترنت والإعلانات التجاريّة، والتفلّت المتزايد من أيّ ضوابط،
  3. العنف وتفشّي المخدّرات وإدمان القمار والكحول…
  4. تفكّك الأُسرة وانهيار القيم العائليّة،
  5. تسطيحٌ ثقافيّ وقولبة موحَّدة لما يُسمّى “الثقافة العالميّة”، في موازاة تعدّد الثقافات واختلاطها،
  6. تعصّب دينيّ يجنح إلى عرقلة عجلة التقدّم خوفًا من عدم القدرة على اللحاق به،
  7. طبيعة الأنظمة السياسيّة السائدة في الشرق العربيّ وضرورة احترامها مبادئَ الديموقراطيّة وحقوق الإنسان.

إزاء هذه التحوّلات، على الكنيسة المارونيّة أن تتبنّى موقفًا ينبثق من غنى تقاليدها وتعاليمها وتأصُّلها التاريخيّ وانفتاحها الحضاريّ. ومن أجل ذلك، فهي مدعوّة لقراءة التحوّلات التي أصابت العالم الذي تعيش فيه قراءةً متأنّية. والكنيسة المارونيّة، التي كانت رائدة في الحداثة وأدخلتها في هذا الشرق منذ عدّة قرون، عرفت كيف تحافظ على أصالة تراثها الأخلاقيّ والإيمانيّ. لذا، بمقدورها استيعاب عدم استقرار مرحلة الانتقال إلى الانفتاح والتطوّر، من خلال تقوية مناعة الأفراد بتزويدهم ثقافةَ الثبات في القيم الأساسيّة.

ثانيًا: في العالم الذي طبع هويّتها

  1. إنّ أحدى التحديّات المهمّة التي تواجه الكنيسة المارونيّة المحافظةُ على وحدتها في ضوء واقع انتشارها العالميّ الجديد. من هنا أهمّيّة تنظيم علاقتها بعالم الانتشار، لاسيّما بين الكرسيّ البطريركيّ والأبرشيّات المارونيّة في العالم.

وهي، في هذا السياق، أمام مهمّة أساسيّة تقتضي الجمع بين الأصالة والتغيير أو التطوّر. “فخصوصيّتنا هي طريقنا إلى الانفتاح على البشريّة والكنيسة لنُغنيهما ونُغْنَى بهما[5].

وعلى الكنيسة أن تبقى أمينة للتاريخ وللهويّة، بدون التقوقع والانغلاق، بل بالانطلاق للتجسّد في هذا العالم الواسع، من دون الذوبان فيه أو الاقتلاع من الجذور، وهذا أمرٌ إشكاليّ يجب مواجهته بحكمةٍ وشجاعة.

  1. في إطار أمانة الكنيسة المارونيّة لأصالتها الكنسيّة والطقسيّة والليتورجيّة، فإنّ دعوتها الأنطاكيّة وتراثها السريانيّ يُمليان عليها، في عالم اليوم، أن تساهم في إحياء التراث المشترك الذي يتضمّن الآبائيّة الأُولى، بما فيها اليونانيّة (قبل أن تتحّول إلى المدرسة البيزنطيّة من جهة، والمدرسة اللاتينيّة من جهة أخرى). ولعلّها بفضل إنطاكيّتها وخلقيدونيّتها، مؤهّلة إلى أن تضطلع بدور الوساطة في المسعى المسكونيّ، بين الكاثوليكيّة اللاتينيّة والشرق الأرثوذكسيّ. فقد حان الوقت لتنقية الذاكرة المسيحيّة من رواسب الماضي السلبيّة والنظر إلى المستقبل بروح المسيح وبهَدْي إنجيله وتعاليم رسله، فالمشاكل التي نعانيها هي مشتركة وحلولها يجب أن تكون مشتركة. “ففي الشرق، نكون مسيحييّن معًا أو لا نكون”[6].
  2. إنّ شراكة الإيمان مع الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة تفرض مواجهة تحدّيات العصر على أُسس مشتركة، والعودة إلى تعاليم الكنيسة الجامعة في ضوء التجربة المارونيّة ومغازيها. “فشراكة الإيمان مع الكنيسة الجامعة والانتماء الحضاريّ والكنسيّ إلى شرقنا العريق هما القطبان اللذان نهتدي بهما كي نحدّد موقفنا وموقعنا على جميع الصعد والمستويات”[7].

وعلاقة الكنيسة المارونيّة بلبنان تفرض عليها مواجهة تحدّيات هذا الوطن الذي كانت في أساس بنائِه. وهي مدعوّة إلى الإسهام، مع أبنائها، في إعادة بناء لبنان الذي دمّرته الحروب. هذه المهمّة تفرض عليها إعادة تقويم الواقعين اللبنانيّ والمارونيّ، بعد أن شوّهت الصراعات معالمَ وجودها وأضرَّت أيَّما ضررٍ بأوضاع أبنائها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

  1. قد لا تكون المسألة أسهل على صعيد العالم العربيّ الذي اختارت الكنيسة المارونيّة أن تكون حاضرة فيه وفاعلة. والكنيسة تنظر إلى العالم العربيّ طرفًا أساسيًّا في لعبة المتغيّرات بسبب موقعه الجغرافيّ وروابطه الحضاريّة وغنى موارده الطبيعيّة والمعضلات السياسيّة التي تجتاحه والتي تتّسم بطابعٍ دوليّ يهمّ العالم بأسره. “فهذا العالم بالذات يعاني مخاضًا حضاريًّا عميقًا وهو عالم يبحث عن ذاته وعن صيغةٍ لوجوده، وعن موقعٍ له في عالم اليوم”[8] وهو بحاجةٍ إلى الاستقرار والسلام. والإنسان في منطقتنا إنسان متألّم، يلجأ إلى التعبير عن ذاته عن طريق العنف أو التطرّف أو العدوانيّة أو التعصّب، حيث يرى أنّ العالم يهدّده في هويّته وشخصه وكيانه. وكثيرًا ما يلجأ الإنسان أيضًا إلى الهجرة سعيًا إلى حياة هنيئة، تُحْتَرم فيها حرّيته وكرامته وتؤمَّن له فيها سُبُل عيشٍ كريم. والهجرة المسيحيّة تحديدًا تُفرغ الأرض التي نشأت فيها المسيحيّة من مؤمنيها، في الوقت الذي تُفتح لكنائسنا إمكاناتٍ جديدة.

من الضرورة أن يكون للكنيسة المارونيّة موقف من البيئة والعلم والتقْنيّة، ومن العدل والحرّيّة والسلام… بغيةَ الإسهام في تصحيح صورة العالم على قاعدة حقوق الإنسان والحرّيّات العامّة وسعيه المتنوّع إلى الخير وجمعِ ثمار أعماله الفكريّة والفنّيّة والعلميّة، التي تشهد على أنّه خليقة الله وأنّ دعوته هي رعاية العالم تحت نظر الله.

الفصل الثالث: مواجهة التحدّيات

  1. من أجل مواجهة التحدّيات، على الموارنة استعادة رسالتهم في عالم اليوم أو استنباط دورٍ جديد. فالكنيسة المارونيّة مسؤولة عن صياغة هذه الرسالة، لها ولأبنائها المقيمين في لبنان والنطاق البطريركيّ وللمنتشرين في أصقاع العالم. إنّ التاريخ المارونيّ شَهِدَ تجارب صعبة وقد جدّد الموارنة، أكثر من مرّة، الرسالة المارونيّة وكثّفوها، ولعلّ هذه المرحلة من تاريخنا الحديث تستدعي إعادة نظر في المواقف والمواقع لأنّها مفصليّة في هذا الشأن.

من مسؤوليّة الكنيسة المارونيّة، اليوم، أن تحقّق حضورًا لا يَهاب المصير، ولا يكتفي بالدفاع عن الذات، حضورًا همّه الدعوة الإنجيليّة خدمةً للرسالة في مجالَيْ السلام والترقّي، وفي مجابهة عنيدة لكلّ شكلٍ من أشكال التحدّيات، سواء أتت من التعصّب الديني أم من اللامبالاة. “إنّ حضورنا المسيحيّ لا يريد أن يكون حضورًا من أجل ذواتنا، بل لتكون الكنيسة شاهدة وصاحبة رسالة هي رسالة مؤسّسها، السيّد المسيح”. “ويعني الحضور أن نكون في وسط المجتمع الذي نعيش فيه علامةً لحضور الله في عالمنا[9].

  1. بالإضافة إلى دور الكنيسة المارونيّة الوطنيّ، وهو ما يُسلِّم به الجميع عبر التاريخ، فإنّ لهذه الكنيسة مؤهّلات متكاملة للنجاح والاستمرار بعزّة وفاعليّة. فهي كنيسة حيَّة وشابّة، حيويّة وملتزمة كنسيًّا وإيمانيًّا، في الوطن وفي بقاع الانتشار، وتتمتّع أيضًا بطاقاتٍ متنوّعة في شتّى الميادين التعليميّة والاقتصاديّة والعقاريّة والاجتماعيّة. والكنيسة أيضًا مثل الجسم البشريّ، يقوم كلُّ عضو فيه بدورٍ أساسيّ، للشباب دورهم، للمرأة دورها وللعائلة دورها. وعلى الكنيسة تفعيل دور كلّ قطاع من أجل تأدية رسالتها وتثبيت حضورها الفاعل على أكمل وجه. وهذا الحضور يتجلّى من خلال: الكنيسة الشاهدة والكنيسة المعلّمة والكنيسة الخادمة.
  2. وهي من هذا المنطلق، مخوَّلة “إحياء القِيَم الإنسانية وبخاصّة القِيَم المسيحيّة التي عليها يقوم بِناء الأفراد والعائلات والمجتمعات والأوطان، والعودة إلى تراث غنيّ بالمبادئ والقِيَم التي ساعدت أجدادنا على تخطّي المحن وصقلت إرادتهم وأضاءت طريقهم إلى ما فيه خيرهم ومرضاة ضميرهم”[10].
  3. إنّ حضور الكنيسة المارونيّة في الشرق كما في العالم أجمع إنّما هو أوّلاً وآخرًا، حضور لنشر الإنجيل والشهادة للمسيح بـ”نكهةٍ مارونيّة”. وهذه “النكهة المارونيّة” إنّما تتميّز بالنُسك والصلاة والتقشّف والجهاد الروحي. من هنا، فإنّها قادرة أن تَغرف من تراثها العريق في التقشّف وروحانيّتها النسكيّة، من أجل مقاومة تيّار المادّيّة الجارف.
  4. إنّ مواجهة تيّارات الإلحاد والانحطاط الأخلاقيّ وكذلك حركات التشدّد والمغالاة والتعصّب الدينيّ، تفرض على الكنيسة المارونيّة أن تطوّر عوامل المناعة، وذلك عبر إبراز القِيَم الإنسانيّة والمسيحيّة وقِيَم التعاضد الاجتماعيّ والعدالة الاجتماعيّة والحفاظ على المبادئ الروحيّة. وفي عالمٍ يبتعد فيه عدد كبير عن الدين والإيمان، ويلجأ إلى خلط المبادئ الدينيّة المختلفة وانتقاء ما يعجبه منها في ما يشبه “سوبر ماركت” دينيّة عالميّة، يمكن الكنيسة المارونيّة أن تضيء الدرب، هي التي تجمع الاعتدال والانفتاح على الآخرين، بعدم المساومة في الإيمان.
  5. وبوسع الكنيسة المارونيّة، بما لها من عمقٍ تاريخيّ وزخمٍ روحيّ وتجربة غنيّة متنوّعة عبر انتشارها في العالم، أن تأخذ من العولمة ما توفّره من إيجابيّات، فتعزّز الوحدة والتواصل بين أبنائها الموزّعين بين البلدان والقارّات وتستفيد من سرعة المواصلات وسهولتها لإيصال صوتها وتلبية دعوتها الرسوليّة.

وتذكّرنا الكنيسة، عبر نشاطاتها المتنّوعة، بأنّها خادمة الإنسان، فرسالتها الروحيّة لا تنفصل عن رسالتها الاجتماعيّة، وهي تهدف إلى بناء الإنسان، في كيانه وكرامته الإنسانيّة، انطلاقًا من هذه الحقيقة الأساسيّة أنّ كلّ إنسان مخلوق على صورة الله وأنّ كرامته مستمدّة من هذا الشَبَه الإلهيّ. ففي عالمٍ يشعر فيه الإنسان بضياعٍ ويبحث عن معنى الوجود وعن هوِّيةٍ، يمكن الكنيسة المارونيّة، بهيكليّتها العائليّة، أن تعطي شهادة في الوحدة والاستمراريّة.

ولا تنسى الكنيسة، في خضمّ تلبية رسالتها في هذا العالم الذي تعيش فيه وتفعل فيه فعل الملح والخميرة، “أنّ السيّد المسيح هو طريقنا إلى الإنسان، والإنسان هو بدوره طريق الكنيسة”[11]. لذا فهي تتضامن مع إنسان المنطقة والبلدان التي توجد فيها، وتشارك الناس معاناتهم وآمالهم وتدافع عن حقوقهم فلا تسكت عندما تُنتهك تلك الحقوق ولا عندما يُصادَرُ حقُّ الشعوب في العيش الكريم. إنّ تحرير الإنسان وتطويره ومقاومة الظلم تتطلّب منها أن تقف وتَجْهَرَ بالحقّ.

كذلك، فإنّ تجربتها التاريخيّة في الشرق والعالم العربيّ تجعلها قدوة في الحوار والتعايش مع الإسلام ضمن الوطن الواحد أو الحوار مع إخوتنا المسلمين، انطلاقًا من تجربتها الفريدة في لبنان، وهي “خبيرةٌ في الحوار، كما أنّ الكنيسة خبيرة في الإنسانيّة”.

هذه المسائل وغيرها من الشؤون المصيريّة تحتِّم على الكنيسة، في مكان تجسدّها، أن تستمدّ من تراثها الإنسانيّ والإيمانيّ الأجوبة والحلول من أجل استمرار رسالتها. وهذا يتطلّب منها أن لا يكون لها اطّلاع ونظرة شاملة إلى الشؤون كافّة، من باب الخصوصيّة اللبنانيّة وحسب، بل أيضًا من باب النشاطات التي تشمل الوضع الانتشاريّ.

والكنيسة اليوم بحاجة إلى وضع مبادئ لتعاملها مع الثقافة الحديثة، كما أنّها بحاجة إلى إعادة تفعيل النقد الذاتيّ والعقلانيّة اللذين أدخلهما الموارنة إلى المشرق وهما سِمَتان باتت تفتقر إليهما منطقتنا..

وهي أيضًا قادرة على إحياء اهتمام موارنة الانتشار بدعم لبنان لأنّه مركز البطريركيّة ومصدر الينابيع الروحيّة وأرض التأسيس، لكي يستمرّ في دعوته ورسالته.

وهي تلجأ، أيضًا، إلى الوسائل والتقنيّات الحديثة في الإعلام والمواصلات، متبنّيةً لغةً حديثة جذّابة في أداءِ رسالتها المبنيّة على كلمة ربّنا يسوع المسيح الأزليّة.

خاتمـة


1. في واجب إعلان الإنجيل (Evangeli Nuntiandi)، البابا بولس السادس، 1975، رقم 8.

2. رسالة الفادي، رقم 42 و43.

3. رسالة مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحيّ في الشرق، عيد الفصح 1992.

4. المرجع ذاته.

5. الحضور المسيحيّ في الشرق، مرجع ذاته.

6. المرجع ذاته.

7. المرجع ذاته.

8. المرجع ذاته.

9. الحضور المسيحيّ في الشرق، المرجع ذاته.

10. رسالة الصوم، 2004، في الوطن والقِيَم، مار نصرالله بطرس صفير.

11. رسالة مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحيّ في الشرق، عيد الفصح 1992.