النص الرابع عشر: التعليم المسيحيّ وتنشئة الراشدين المسيحيّة المستمرّة

المجمع البطريركي الماروني 2003-2006


النص الرابع عشر: التعليم المسيحيّ وتنشئة الراشدين المسيحيّة المستمرّة


مقدّمة

  1. إنّ خدمة التعليم المسيحيّ من خدمات الكنيسة الأساسيّة، بدونها لا يستطيع الولدُ أن ينمو بالإيمان، ولا الراشد أن يطلب المعموديّة، ولا المؤمن أن يعيش مسيحيّته عيشًا مستنيرًا. لذا أولتها الكنيسة اهتمامًا خاصًّا منذ نشأتها فأقامت جماعة الموعوظين للراغبين في الانضمام إليها حيث يتعلّمون حقائق الإيمان المسيحيّ، ويتمرّسون بعيشها. وبعد قبولهم أسرار التلمذة، يتفقّهون بمعاني رموزها وإدراك مفاعيلها.

وما زالت الكنيسة ساهرة على أداء هذه الخدمة عملاً بوصيّة الربّ: “إذهبُوا وتلمذوا جميع الأمَم وعمِّدوهُم (…) وعلِّموهم أن يعملُوا بكلِّ ما أَوصيتكم به” (متى 28/19). وإلى وَعيها المخاطر المحيطة بأبنائها المُعرّضين “للانحياز إلى مُعلِّمين يكلِّمونهم بما يُطرب آذانَهُم” (2 طيم 4/3) وللانقياد إلى مغريات العالم، فهي تَعلم أنَّ البشريَّةَ ما زالت تربة خصبة تقبَل زرع الكلمة وتُثمر ثمار خلاص، شرط أن يستوفي الزارع ما تستلزمه البشارة من نعمة إلهيَّة وجدارة تربويَّة وَتفرّغ ودعم المسؤولين الكنسيّين. ولذا فإنَّها تعهد في التعليم إلى “أُناسٍ أُمناء وأهل ليعلِّموا غيرهم” (2 طيم 2/2).

ولا تكتفي التلمذة بالتعليم بل تسعى إلى جعل التلميذ يتخلَّق بخلق المسيح فيفكِّر أفكاره، ويعمل أعماله، ويقف مواقفه؛ وهذا ما عناه الرسول بقوله: “بالبشارة ولدتُكم في المسيح يسوع” (1 قور 4/15)؛ و”يا أبنائي، إنّي أتمخَّض بكم أيضًا إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم” (غل 4/19).

الفصل الأوّل : التعليم المسيحيّ عبر تاريخ الكنيسة المارونيّة

لذا يرى المجمع في استذكار أهمّ الحقب التاريخيّة إفادة للعاملين في خدمة التعليم والمتعلِّمين، فيعرفون فضل من حفظوا الوديعة قبلهم وتحمّلوا في سبيلها الألم والاستشهاد أحيانًا، ويدركون ما هي العوامل الثوابت عبر العصور.

أولاً: أهمّ الحقب التاريخيّة[1]

1. البدايات

نشأت الكنيسة المارونيّة حول دير مار مارون في شمال سورية، وبقيت الأديرة ردحًا طويلاً من الزمن منارة إيمان وتبشير وتعليم. فعاشت الجماعة المسيحيّة المارونيّة بأجواء ديريّة، تنظّم حياتها وعملها بحسب الأوقات الديريّة، من صلوات، وقدّاس وممارسات دينيّة. فكانت جماعة مصلّية تحيا الحياة الليتورجيّة. تواكب السنة الطقسيّة وتتنشّأ من عيش الصلوات والأعياد والأصوام[2].

2. الأزمنة الصعبة

سَهَّل لهم الصليبيّون الالتحام بروما وبالغرب في أثناء القرنين الحادي عشر والثاني عشر. أتاحوا لهم فرصة لتطوير حياتهم الكنسيّة والاجتماعيّة، والانفتاح على الطقوس الغربيّة، وارتداء ألبستهم البيعيّة. وكانت مناسبة لهم لإثبات صحّة إيمانهم الكاثوليكيّ.

لكنّ الانفراج ما عتّم أن انقلب ضيقًا وتنكيلاً في ظلّ دولة المماليك الذين تمكّنوا من إجلاء الصليبيّين والانتقام من الموارنة. فتجالد هؤلاء وثبتوا في وجه الاضطهاد.

وفي أوائل القرن السادس عشر انتقل الحكم إلى العثمانيّين والإمارتَين المعنيّة فالشهابيّة. فنَعِم الموارنة بعهد جديد من الحريّة وإعادة الوصل مع روما. وفي هذا العهد عينه عرف التعليم المسيحيّ نهضة مرموقة بفضل عوامل فاعلة نذكر منها المجمع، والكتاب، والمدرسة[3].

3. المجمع

عقدت الكنيسة المارونيّة مجمع قنّوبين سنة 1580، وفرضت بدورها القيام بخدمة التعليم انطلاقًا من قانون الإيمان، والصلاة الربيّة، والأسرار، والوصايا، في أيّام الآحاد والأعياد. كما أوجب على الأساقفة تعيين كهنة يعلّمون الأولاد التعليم المسيحيّ في كلّ قرية ومدينة أيّام الآحاد.

ثمّ عُقد المجمع اللبنانيّ في السنة 1736 فوضع قوانين تلزم الكهنة بتعليم المؤمنين في الآحاد والأعياد تعليمًا يُطابقُ “التعليم المسيحيّ الرومانيّ”[4]، وتُعاقبُ من لا يقوم بهذه الخدمة. كما تُلزم الوالدَيْن بتعليم أولادهم الإيمان الصحيح، وإن عجزوا بسبب الجهل، وجّهوهم إلى الكنيسة لتلقّي تعليم الكاهن. كما يشمل هذا الإلزام معلّمي المدارس. ويوجب على المُعمِّد استبعاد عرّاب العماد الذي يجهل العقيدة المسيحيّة.

أمّا المدارس فالمجمع يوصي بفتحها في المدن والقرى والأديرة، ويلحّ على تمريس تلاميذها بالصلاة، والقيام بتلاوة الفرض، وخدمة القدّاس، وقراءة العهد الجديد، والمزامير[5].

4. الكتاب

وقد تُرجمت هذه الكتب إلى العربيّة وطُبعت في روما أوّلاً ثمّ في لبنان بعد إنشاء مطبعة الشوير 1733. والمجمع اللبنانيّ يوصي باستعمال كتاب بلارمان الذي يتناسب ببساطته ومستوى الشعب الثقافيّ. وقد نهجت جميع هذه الكتب منهج السؤال والجواب في عرض العقيدة والأسرار والوصايا.

وفي سنة 1780 أصدر مطران بيروت يوسف اسطفان كتاب تعليم مسيحيّ من تأليفه باللغة العربيّة. لكّن وجوه الشبه كثيرة بينه وبين الكتب المترجمة.

منذ ذلك الزمن وحتّى منتصف القرن العشرين بقيَ أسلوب الكتاب سؤالاً وجوابًا. في هذا السياق نشير إلى أنّ الرابطة الكهنوتيّة وضعت كتابًا للتعليم في جزءين[6]. وبعد الحرب العالميّة الثانية جَهَدَ المؤلِّفون في جَعل الكتاب قريبًا من ذهنيَّة التلميذ في مراحل نموِّه، ومتماشيًا مع المتطلِّبات التربويّة الحديثة. كما أنَّ موارنة الانتشار تنبَّهُوا إلى رَفد الناشئة بتراث كنيستها فوضع بعضهم كتبًا في هذا الاتِّجاه قد تفيها حقَّها[7].

5. المدرسة

كثرت المدارس الكاثوليكيّة في القرنَين التاسع عشر والعشرين واختلط فيها التلاميذ من جميع المذاهب المسيحيّة. وجميعهم يتلقّى تعليمًا مسيحيًّا واحدًا. أمارونيًّا كان أم لاتينيًا أم غيرهما. وما كان من فارق بين كتب التعليم هذه حتى منتصف القرن العشرين.

6. محاولات التجديد

ويجاري تربويّو الشرق زملاءهم الغربيّين في هذه الاختبارات، لاسيّما وقد تطوّرت طرق تعليم جميع مواد العلوم واللّغات. ولا يجوز أن يبقى التعليم المسيحيّ وحده في المقام الأخير.

ثانيًا: الثوابت

  1. يرى المجمع أنّ الموارنة، عبر الأجيال والتقلّبات التاريخيّة، قد امتازوا بالتشبّث بثوابت مكّنتهم من الصمود والرسوخ في الإيمان المستقيم، وأنّ للتعليم المسيحيّ في الكنيسة المارونيّة ثوابته مهما تطوّرت أساليب أدائه وتبدّلت اللغة:
    1. الحرص على سلامة الإيمان وعيشه في الشركة التّامة مع القيّمين على رعاية الكنيسة المارونيّة وخدمتها والمتشبّثين بالجذور التي منها نشأوا واغتذوا. “فكنيسة الله الحّي هي ركن الإيمان ودعامته” (1 طيم 3/15).
    1. استلهام تعليم الآباء، ولاسيّما السريان منهم، الذين حفظوا لنا هذا الإيمان بالتعمّق فيه، والدفاع عنه، وتعليمه بجدّ وغيرة، وكثيرون منهم مهروه بدمائهم. والكنيسة إذ تقرأ كتاباتهم في احتفالها بالخدمة الإلهيّة، ترتوي ممّا فيها من تعليم وإرشاد وتشجيع.
    1. الكتاب المقدّس والتقليد الكنسيّ كانا وما زالا منهل الحقيقة، والحياة المسيحيّة الأصيلة. منهما اقتُبست الصلوات والقراءات الليتورجيّة التي طالما سمعها المؤمنون وحفظوها. أمّا اليوم وقد غدا الكتاب المقدّس بمتناول الجميع، فيجدر بالمارونيّ أن يألفه بالمطالعة والتأمّل فيصير “مصباحًا لخطاه ونورًا لسبيله”.
    1. من قبل أن تطبع الكتب، وبعد انتشارها دأب الأساقفة، والكهنة، والرهبان على تعليم المؤمنين وإنهاجهم طريق الفضائل الإنجيليّة بإعلان الكلمة وشهادة السيرة. وما زالت هذه الخدمة أولى الخدمات في الكنيسة ولها يتفرّغون.
    1. دأب الموارنة على المسالمة والمحبّة مع المسيحيّين الآخرين، والتعاون وإيّاهم ولاسيّما في أزمنة المحن. الآن وقد تطوّرت العلاقة بينهم تطوّرًا إيجابيًّا فهي تقتضي منهم انفتاحًا متبادلاً وسعيًا متواصلاً إلى الوحدة التامّة في المسيح.
    1. يعتبر الموارنة تعايشهم مع المسلمين، منذ البدايات، تدبير عناية إلهيّة. إذ يشهدون بينهم للمسيح ومحبّته، ويتعاونون وإيّاهم على بناء المجتمع والوطن، ساعين إلى التساوي في الحقوق والواجبات، مقدّرين ما في الديانتين من قيم مشتركة، “مستعدّين لإجابة كلِّ من يطلب منهم دليلاً على الرجاء الذي فيهم” (1 بط 3/16).
    1. القدّيسون والقدّيسات في الكنيسة المارونيّة تعليم حيّ بليغ، وإنجيل خامس كُتب في كلِّ عصر بلغته، وعُزف بلحنه. وهم يقولون للمعلّمين والمتعلّمين معًا: “اقتدوا بنا مثلما نقتدي بالمسيح” (1 قور 11/1) على ألاّ يتوقّف التعليم المسيحيّ عند المعجزات التي صنعوا، بل يبرز شهادة سيرتهم الإنجيليّة التي يستطيع المؤمن أن يعيشها ويتقدّس.

الفصل الثاني : واقع التعليم المسيحيّ ومرتجاه

  1. مرّ التعليم المسيحيّ في الكنيسة المارونيّة بمراحل مُختلفة. كانت الليتورجيّا العاملَ الأوَّل في تعرُّف المؤمنين إلى حقيقة يسوع المسيح. وكانَ للعائلة دور أساسيّ في هذا التعليم. فهي كانت تلتقي كُلَّ مساء للصلاة، وكانَ الوالدُ يقصُّ على أولاده قصص سير القدّيسين وروايات من الكتاب المقدّس. وفي مدرسة “تحت السنديانة”، كانت المزامير نصوص تعليم القراءة. وكان إطار التعليم التقليديّ الدير أو الرعيّة.

أولاً: التعليم المسيحيّ اليوم

  1. لا بدّ بعد الكلام على التعليم التقليديّ من وصف الواقع المُعاش اليوم. يؤمَّنُ تعليم الأولاد في المدارس بشكل عامّ. فالمدرسة هي الإطار الأوَّل لهذا التعليم. أمّا دور العائلة فقد تقلَّص لأسباب عدّة، منها: في بعض الأحيان فاقت ثقافة الأبناء ثقافة والديهم ولم يَعد من السهل نقل الإيمان إليهم. ثمَّ إنَّ الانشغالات المُتعدِّدَة والهموم لم تَعد تسمح للأهل بما يكفي من الوقت لهذا العمل. ولا ننسى ما كان للحرب الطويلة من تأثير سلبيّ، فضعف الحسّ الدينيّ في كثير من عائلاتنا. وجاءت وسائل الإعلام لتشغل حيِّزًا كبيرًا من نشاط الأولاد والعائلة. لكنّ بعض الحركات الروحيّة أو الرسوليّة ساهمت في تنشئة الأولاد مساهمةً فاعلة.
  2. أمَّا على مستوى الراشدين، فقد حدث تطوّر بإنشاء مراكز تعليم خاصّة بهم. إنَّ الحياة الليتورجيّة أخذت تتقلَّص حتّى الاكتفاء بذبيحة القدَّاس يوم الأحد والعيد. وبالتالي فقد اقتصر التثقيف على المُمارسين لها، وعلى بعض المنتسبين إلى الحركات الروحيّة والرسوليّة. هُناك أيضًا بعض المجلاَّت وبعض وسائل إعلام سمعيّة وسمعيّة بصريّة تبثُّ كليًّا أو جزئيًّا برامج تثقيفيّة مسيحيّة. وقد نظّمت بعض الرهبنات والأبرشيّات والجامعات تثقيفًا دينيًّا للعلمانيّين.

وقد خصّصت بعض الأبرشيّات المارونيّة في بلاد الانتشار لقاءات للتعليم المسيحيّ في حمى كنائس الرعايا. وأُنشئت بعض الجماعات الروحيّة التي تسعى إلى تمرس أعضائها بالروحانيّة المارونيّة.

ثانيًا: تعليم شعب الله

  1. وسط التغيُّرات الطارئة، لا بدّ من أن يواكب المسؤولون عن التعليم المسيحيّ مسيرة كلِّ أفراد شعب الله بحسب أعمارهم وظروفهم وأوضاعهم. فإذا كانت المدارس تؤمِّن التعليم المسيحيّ للأولاد، فهذا لا يعفي الرعيَّة من دورها. لقد خَطَت المدرسة، مع ما أمَّنَته اللّجنة الأسقفيّة للتعليم المسيحيّ، خطوات لا بأس بها في هذا المجال. ويبقى عمل كثير. أمّا الذين نُسمّيهم “راشدين” فوضعهم يختلف.
  2. في الأمس كان الراشدون مُتشابهين إلى حدٍّ كبير. ولم تكن للفرادة والشخصانيّة المكانة التي لها اليوم. يتميّز عالم الراشدين اليوم بتنوّع لافت إذ هو عالم الاختصاص. وهذا الواقع يفرض على المسؤولين عن تنشئة الراشدين المسيحيّة تنوّعًا في الأساليب والمضامين والمناهج والأهداف لتحقيق الغاية القُصوى الواحدة وهي إعلان الإنجيل.

لقد أُتيح لعالم الراشدين اليوم الانفتاح على ثقافات متنوّعة وتقنيّات جديدة. فقد أصبح كلّ إنسان مُتعدِّد الانتماءات الثقافيّة يسعى إلى تأسيس نظرته الخاصّة إلى كلّ ما يدور حوله، ولكن بصعوبة بسبب وفرة المُعطيات والتحوّلات. ولا شكّ أنَّ في هذا كلِّه ما يؤثِّر، إيجابًا أو سلبًا، على نقل البشارة الإنجيليّة في عالم اليوم.

وفي عصر الاستهلاك والماديَّةِ والتهافت على الإنتاج أكثر من الاستنتاج، أصبح من الصعب إعلان الإنجيل الذي يدعو إلى التحرُّر، وتحرير الإنسان والعالم. نحن في عالم يكثر فيه الكلام على الحوار وخاصّة حوار الحضارات والأديان، وازداد فيه الاختلاف وبالتالي الخلاف. والإنجيل هو دعوة للِّقاء والشراكة.

ثالثًا: بين الميراث والتراث

  1. في الوَرَثة مَن يُبقي الموروث كما هو. وفيهم مَن يكون أمينًا للتراث في تطوير ما وُرِث. ونحن مدعوّون للأمانة لتراثنا المارونيّ لا لما توارثنا من عادات وتقاليد.
    1. لا يُمكن لتنشئة الراشدين المسيحيّة المستمرّة أن تغفل واقع التنوّع في هذا العالم. فالقائمون على هذه التنشئة مدعوّون إلى تحسُّس معاناة الراشدين في عالم اليوم الواسع وفي محيطهم المباشر. فلا يرضى المُنشِّئ لنفسه بثقافة محدودة، بل يُلمّ بكثير من العلوم الإنسانيّة من مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الفلسفة وعلم اللاهوت.
    1. لا بدّ من اعتبار الاختصاصات المُختلفة في التنشئة. فتنشئة الأطبّاء مثلاً تختلف عن تنشئة غيرهم في كثير من جوانبها.
    1. لا بدّ من العمل على مستوى الانتماء النقابيّ لتأمين التنشئة المسيحيّة المستمرّة انطلاقًا من واقع كلّ راشد.
    1. الحركات الرسوليّة والروحيّة تؤمِّن ثقافة مسيحيّة لأعضائها دون أن تأخذ بعين الاعتبار واقع كلّ عضو إلاّ إذا كانت الحركة مُتخصِّصة مثل الشبيبة العاملة المسيحيّة.
    1. مع التأكيد على أهميّة وضع كتاب تعليم مسيحيّ للراشدين، يؤكِّد المجمع على أهميّة استعمال وسائل الإعلام لنشر الفكر المسيحيّ العمليّ، وإعلان موقف الكنيسة موقفها من قضايا كثيرة آنيّة غير مُكتفية بالمبادئ النظريَّة.
    1. لا بدّ من العمل على نشر الوثائق الكنسيّة العالميّة والمحليّة كي يتمكّن كلّ مؤمن راشد من أن يعيش واقعه الخاصّ في ضوء تعليم الكنيسة.
    1. وفي كلّ هذا يُفترض التعاون بين الكنائس المُختلفة. وهذا التعاون يساعد على خلق روح مسكونيّة وتنشئة مسكونيّة ملائمة.
  2. عبر كلّ ذلك، لا ننسى حقيقة مهمّة في واقعنا المارونيّ. فالكنيسة المارونيّة أصبحت كنيسة عالميّة الانتشار. وهي مدعوّة لتنشئة أبنائها على روح الحوار والتفاهم مع المحافظة على الهويَّة.

كنيستنا المارونيّة اليوم على مفترق في طيّاته الكثير من الحظوظ والنعم والكثير من المخاطر.

  1. يجب أن تتناول تنشئتنا على الهويّة المارونيّة كلَّ ما يُحيط بها وتعمل على بعث حوار فاعل في سبيل بناء إنسانيّة تقبل بالتعدّديَّة واحترام هويَّة كلّ شعب.

في تراثنا الكثير من الاختبارات الروحيّة واللاهوتيّة. من المطلوب أن نعود إلى نصوصنا الليتورجيَّة والآبائيّة فنتَّخذ منها فهرسًا بالكلمات السريانيّة (الجمرة، بيت غازو، كيونو…) لندرس هذه الكلمات ونعيدها إلى إطارها فنستخرج منها كثيرًا من الأفكار والموضوعات. وانطلاقًا منها نكتب نصوصًا جديدة ورتبًا تُناسب عالم اليوم وتُخاطب أبناءه. لأنّ الترجمة الحرفيّة تفتقد إلى الحيويّة التي تُعبِّر عن حقيقة التراث.

رابعًا: أماكن التعليم المسيحيّ وتنشئة الراشدين

  1. مِمّا لا شكَّ فيه أنّ مضمون التعليم المسيحيّ كمضمون تنشئة الراشدين يُنقل بواسطة التقليد الكنسيّ. فَمن جهة، يُحافظ هذا التقليد على مَضمون الإيمان ويُنَقّيه من الشوائب؛ ومن جهة أخرى، يُساهِم في إيصاله صَحيحًا إلى الأجيال المُتعاقبة. يَقودُنا هذا التأكيد إلى عَرض دَور بَعض الأماكن الأساسيّة التي يَتمّ فيها هذان البُعدان، بُعد المحافظة على الإرث الإيمانيّ، وَبُعد انتقالِهِ خاليًا من الهرطقات، خالصًا منَ الانحرافات.

لَن نَفصلَ بَين أماكن التعليم المسيحيّ وأماكن تنشئة الراشدين، لأنّ هذه الأماكن تتداخَل، والمكان الواحد يُمكن أنْ يُساهِم في هَذَين العملَين مَعًا.

عندما نتكلّم على دور العائلة نتطرّق إلى دور الأجداد والآباء والإخوة والعرّابين والأقارب… دور كلّ منهم مُميّز تجاه الآخر وتجاه سائر الأفراد. أمّا الدور المشترك فهو دور الصلاة ضمن العائلة، ودور الشهادة المسيحيّة، والسلوك المستقيم. هذا الدور الذي تشهده العائلات المارونيّة يواجه حاليًّا، إنْ في النطاق البطريركيّ أو في الانتشار، تأثيرًا مزدوجًا: عيش الأصالة والمحافظة من جهة، والانفتاح للتغيّرات الخارجيّة السلبيّة الذي قد يقضي على الروحانيّة الصحيحة، من جهة أخرى.

فالمجمع البطريركيّ المارونيّ، إذ يُثني على دور العائلة المارونيّة، يطلب من أبناء الكنيسة المارونيّة كافّة الانفتاح الإيجابيّ على كلّ ما من شأنه انماء الروحانيّة المارونيّة، كما يحذّر من التأثيرات التي لا تَمتّ إلى الأصالة المسيحيّة بأيّة صلة. من جهة أخرى، يَحثّ المجمع العائلات على إعادة الاعتبار للصلاة ضمن العائلة؛ وتوسيع إطار هذه الصلاة إلى عائلات أخرى مع تَعميق مضمونها ليكون حاملاً أبعاد الإيمان الصحيحة.

أمّا النشاط الرعويّ الآخر فهو النشاط على مستوى الجماعة الرعويّة عامّة: الاحتفالات الطقسيّة، الصلوات الكنسيّة، ليتورجيّات الأسرار… في هذه المُناسبات يصير التركيز على إيصال مضمون الإيمان مِن خلال مضمون الصلوات والألحان والتراتيل، واختيار القراءات الكتابيّة والآبائيّة، مِن جهة، ومن خلال العظات، مِن جهة أخرى.

لا بُدّ من الإشارة هُنا إلى المؤتمرات والندوات واللقاءات التي تُنظّمها تلك الكليّة أو ذلك المعهد في سبيل نشر أسس الإيمان والعلوم الكنسيّة والتفاسير الكتابيّة فتتخطّى الطلاّب الدارسين على مقاعدها وتُفيد عددًا أكبر من المؤمِنين.

إنّ المجمع، إذ يُثني على كلّ الجهود المبذولة من قِبل الأبرشيّات والرهبنات في سبيل تنشئة المؤمِنين، يرجو ألاّ تكون الكمّية على حساب النوعيّة وأن يسعى الجميع إلى تعاون أوثق تنافيًا لشرذمة الطاقات والكوادر وضمانًا لوحدة الجهود وفاعليّتها.

أمّا السجون فكان لها نَصيب من اهتمام الكنيسة من خلال مُرشديّة السجون وبعض المؤسَّسات المؤازرة لها. تسعى الكنيسة من خلال هذه الأعمال ليس فَقط إلى تأمين المُساعدات العَينيّة بَل إلى تأمين حضور إنسانيّ ومسيحيّ للمساجين ومُتابعة المُفرَج عنهُم وإعادة تأهيلهم ومساعدتهم للانخراط مُجدَّدًا في المُجتمع.

الفصل الثالث : التحدّيات المطروحة والاقتراحات المستقبليّة

1. على المستوى الفكريّ

2. على المستوى الراعويّ

 أمّا الأبرشيّة، وهي الكنيسة المحليّة، فدورها أساسيّ في تأمين التعليم والتنشئة. ويقوم التحدّي بتوظيف أبرشيّاتنا الطاقات اللازمة، وفرز ذويّ الاختصاص، لتوفير أفضل الظروف للتعليم والتنشئة، كمثل إنشاء لجنة أبرشيّة تعنى بالتعليم المسيحيّ، وتأسيس مراكز التثقيف الدينيّ، والسهر على تأمين معلّمين كفوئين ومستقيمي السيرة والإيمان للمدارس الرسميّة والخاصّة، وإرسال مرشدين مُلهَمين إلى المستشفيات والسجون والإصلاحيّات وغيرها…

3. على المستويين التربويّ والتقنيّ

فالمجمع يذكّر بأنّ هدف التعليم المسيحيّ الأساسيّ هو حمل المتتلمذ على اللّقاء بيسوع، وليس مجرّد نقل معلومات عنه وتدريسها، لأنّ هذا اللقاء وحده هو القادر على تغيير الحياة وتجديد القلب. فلا بدّ إذًا من حياة رعويّة وليتورجيّة تحتلّ فيها الصلوات والأسرار والرتب مكانتها المميّزة، لبلوغ المتتلمذ هِداية القلب بعد هِداية الفكر واستنارته. “ويخشى أن يُصاب التعليم المسيحيّ بالعقم إن لم تحتضن الجماعة المسيحيّة التي تحيا إيمانها الموعوظ الذي يكون قد قطع مرحلة في تلقّن التعليم المسيحيّ”[16].

خاتمة

الأسرة المارونيّة، كالأسرة المسيحيّة بكاملها، مدعوّة إلى القيام بواجبها في خدمة التعليم المسيحيّ كما في الخدمات الأخرى. فلا يرميَنَّ أحد مسؤوليّة التعليم على غيره، أساقفة كانوا أم كهنة أم رهبانًا أم راهبات، أم علمانيّين، جميعهم أعضاء جسد المسيح السرّيّ، ولا غنى للواحد عن الآخر. “كلّ واحد أُعطي نصيبه من النعمة على مقدار هبة المسيح… وهو الذي أعطى بعضهم أن يكونوا رسلاً، وبعضهم أنبياء، وبعضهم مبشّرين، وبعضهم رعاة ومعلّمين، ليجعل القدّيسين أهلاً للقيام بالخدمة لبناء جسد المسيح” (أفس 4/7 و11-13).

فالكلّ يبني الكنيسة بالتعليم والتعلّم لتبلغ قامة المسيح وتشهد في قلب العالم لخلاصه، وتمجّد الله الثالوث.

توصيات النصّ وآليات العمل

الموضوعالتوصيةالآليّة
1- حسن اختيار المعلّمين والسهر على تنشئتهم الدينيّة.1- يُناشد المجمع إدارات المدارس السهر على اختيار الأساتذة المشهود لهم بقوام السيرة والفضيلة وتنشئتهم على مُختلف المواد التعليميّة من أجل سلامة التعليم على مُختلف المستويات.1- تتابع الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة في لبنان التنسيق مع المدارس لإقامة دورات تنشئة دينيّة للأساتذة والمعلّمين بهدف مرافقتهم الروحيّة.
2- التنشئة الدينيّة للعلمانيّين.2- يوصي المجمع الأساقفة بتعاون أوثق في مجال التنشئة الدينيّة للعلمانيين تنافيًا لشرذمة الطاقات والكوادر وضمانًا لوحدة الجهود وقوّتها.2- يسهر الأساقفة وكلّ المعنيّين بالأمر على توحيد البرامج في مراكز التثقيف الدينيّ وانتقاء المعلّمين الأكفّاء والطلب إلى الرعاة السهر على ذلك مع الدائرة البطريركيّة للتنشئة واللّجنة الأسقفيّة للتعليم المسيحيّ.
3- مرشديّة السجون.3- يوصي المجمع مرشدي السجون بمواصلة التنشئة الروحيّة والإنسانيّة للمساجين، والعمل مع المؤسّسات المدنيّة والاجتماعيّة على توفير المساعدات العينيّة لهم، ومتابعة المُفرَج عنهم. 
4- التنشئة اللاهوتيّة لمعلمي التعليم المسيحيّ والكوادر العاملة في الرعايا.4- يوصي المجمع كلّيات اللاهوت ومعهد الليتورجيا ومراكز التثقيف الدينيّ ومعاهده، العمل على تهيئة معلّمي التعليم المسيحيّ والكوادر العاملة في خدمة الشأن الكنسيّ والرسوليّ في الرعايا، وتدريبهم على الطرق التربويّة الحديثة والوسائل الناجعة لإيصال كلمة الله للمؤمنين، وتشجيعهم على التأهيل المستمرّ.4-أ: الطلب من الأبرشيّات والرهبانيّات التنسيق في ما بينها لكي تنشئ، عند الإقتضاء مراكز لتدريب المعلّمين والمسؤولين في الرعايا والمدارس على استخدام التقنيّات الحديثة وتوفير أفضل المدربين لهم.   4-ب:  الطلب إلى الأساقفة وكهنة الرعايا تشجيع العلمانّيين، وبخاصّة المنشّطين في الرعايا والأخويّات والحركات الرسوليّة، على إتباع الدروس اللاهوتيّة في مراكز التثقيف الدينيّ.
5- التعليم المسيحيّ للجميع.5- يوصي المجمع الأساقفة والكهنة بتضافر الجهود لتأمين التعليم المسيحيّ للموارنة في الرعايا والمدارس.5- تنشئ كلّ أبرشيّة، عند الإقتضاء، لجنة تعنى بتأمين التعليم المسيحيّ في الرعايا والمدارس ولاسيّما المدارس الرسميّة.
6- الإفادة من التقنيات الحديثة لنقل البشرى والتواصل.6- يدعو المجمع جميع القادرين من أبنائنا وبناتنا ومؤسّساتنا إلى تطوير تقنيّات نقل البشرى وتحديثها.6- يُطلب إلى جميع الأبرشيّات والرهبانيّات إنشاء مواقع الانترنيت المارونيّة وربطها بعضًا ببعض تعزيزًا لنقل البشرى وللتواصل بين الموارنة.
7- برامج التعليم المسيحيّ في المدارس.7- يُثني المجمع على جهود اللجنة الخاصّة التي شكّلتها اللجنة الأسقفيّة للتعليم المسيحيّ بالتعاون مع الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة لتحديث برامج التعليم المسيحيّ، ويدعوها إلى متابعة جهودها والتنسيق مع اللجنة الأسقفيّة للعمل المسكونيّ. 
8- مناهج التعليم في مراكز التثقيف الدينيّ.8- يدعو المجمع إلى تشكيل لجنة خاصّة مشتركة بين موارنة النطاق البطريركيّ وموارنة الانتشار، تعمل على وضع منهاج موحّد لمراكز التثقيف الدينيّ ومعاهده يتناسب مع واقع الموارنة وحاجاتهم وانتظاراتهم.  8- تشكّل اللجنة الأسقفية للتعليم المسيحيّ، بالتعاون مع الدائرة البطريركيّة للأبرشيّات والرهبانيّات، لجنة خاصّة لوضع منهاج موحّد: 1. يركز المنهاج على كيفيّة تطبيق المعطى الإيمانيّ على الواقع المعاش، وعلى تعليم الكنيسة الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وعلى تعليم الكنيسة في ما يختصّ بالانفتاح على الديانات الأخرى، وعلى أهميّة الالتزام في الحوار والعمل المسكونيّ البنّاء…  يركّز المنهاج التعليميّ أيضًا على تقليدنا وتراثنا المارونيَّين في مجالات الفنون المقدّسة والليتورجيا وغيرها..
9- إحصاء الوسائل السمعيّة البصريّة وتطويرها والإشراف عليها.9- يدعو المجمع إلى إحصاء  ما توفّر من نتاجات في موضوعات التعليم والتنشئة الأساسيّة لتقويمها والإشراف اللاهوتيّ على مضمونها، وإعداد نتاجات جديدة وأقراص صوتيّة ورقميّة، بالإضافة إلى مواقع مهمّة على الإنترنت.9-أ: يُعهد إلى اللجنة الأسقفيّة للتعليم المسيحيّ بهذه المهمّة. 9-ب: إنشاء لجنة في كل بلد للإشراف على هذه التنشئة والإصدارات المتعلقة بها.
10- التنشئة الدينيّة في الجامعات.10- يدعو المجمع الجامعات المارونيّة إلى إدخال مادة التنشئة الدينيّة في برامجها الأكاديميّة بصفة إلزاميّة. 

1. راجع: Pierre DIB, Histoire des Maronites, t. I, Librairie Orientale, Beyrouth, 2001.

2 راجع في هذا الخصوص: نص الليتورجيّا والهويّة.

3. راجع في هذا الشأن: Michel NAFFAH, De la catéchèse au catéchisme, Mémoire présenté à l’Université catholique de Lyon, Lyon, 1998.

4. هو الكتاب الذي وضعته لجنة رأسها الأسقف شارل بورومّه استجابة لطلب المجمع التريدنتينيّ. نشره البابا بيّوس الخامس سنة 1566. كانت الغاية منه سدّ ما نقص الكهنة من معرفة لاهوتيّة وتزويدهم بما يسهّل لهم الوعظ وتعليم المؤمنين، وقد استوحاه عَصرئذٍ جميع الذين وضعوا تعليمًا مسيحيًّا بعد صدوره.

5 . راجع: “المجمع اللبنانيّ”، القسم الأوّل (في الإيمان الكاثوليكيّ)، الباب الثاني (في التعليم المسيحيّ والتبشير بكلام الله).

6. الخوري يوسف الجميّل، “مختصر التعليم المسيحيّ“، منشورات الرابطة الكهنوتيّة، 1950، جزءين.

7 . نذكر هنا على سبيل المثال مجموعة الكتب التي وضعتها الأبرشيّات المارونيّة في الولايات المتّحدة: The Faith of the Mountain Series

8 . راجع: نص التربية ونص الثقافة.

9. الإرشاد الرسوليّ، رجاء جديد للبنان، الفقرة 74.

10. المرجع ذاته، الفقرة 74.

11. المرجع ذاته، الفقرة 74.

12. الإرشاد الرسوليّ في واجب تلقين التعليم المسيحيّ في عصرنا، للبابا يوحنّا بولس الثاني، 1979، الفقرة 1، ص 6.

13. المرجع ذاته، الفقرة 14، ص 22.

14. المرجع ذاته، الفقرة 73.

15. الإرشاد الرسوليّ، في واجب تلقين التعليم المسيحيّ في عصرنا، الفقرة 15، ص 24.

16. المرجع ذاته، الفقرة 24، ص 36.                                        

17. كلمة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى “المجلس العالميّ للتعليم المسيحيّ”، في الدورة الثامنة له، في كاستلفاندولفو، الفقرة 4.