البطريرك بولس المعوشي، هو البطريرك الماروني الرابع والسبعون، على كرسي أنطاكيا. أبصر النور في 1 نيسان 1894 في جزين، جنوب لبنان، وهو الثاني الذي يحمل إسم بولس. تلقّى علومه في مدرسة الإخوة المريميين في دير القمر، ومن ثمّ في مدرسة الحكمة في بيروت، ومنها أوفد إلى روما لمتابعة دروسه في اللاهوت والفلسفة وذلك في الجامعة الغريغورية الحبرية. رُسم كاهنًا في روما عام 1917، وظلّ بها حتى عودته إلى لبنان عام 1919، حين شغل منصب أمين سر أبرشيّة صور المارونيّة، غير أنّه في العام التالي، وبناءً على طلب من البطريرك الياس الحويك، سافر برفقة المطران شكرالله خوري إلى الولايات المتحدة والمكسيك، كزائر بطريركي لتفقّد أحوال الموارنة هناك، وقد تجوّل خلال هذه الفترة في كل من إِنديانا وكاليفورنيا وظلّ فيها أربع عشرة عامًا حتى انتخبه مجمع أساقفة الكنيسة المارونية أسقفًا على صور عام في 29 نيسان 1934، وسيم أسقفًا في 8 كانون الأول من السنة عينها. وواضطر الى ترك أبرشيته في سنة 1948، يوم عيّن من الكرسي الرسولي رئيسَ اللجنة الرسولية لإدارة البطريركية المارونية، لمساندة البطريرك عريضة في تصريف شؤون الطائفة، وقد اشتدّت عليه الشيخوخة.
بعد وفاة البطريرك عريضة إلتأم مجمع أساقفة الكنيسة المارونية لانتخاب خلف له، بيد أن المجمع فشل في التوصل لمرشح يحوز ثلثي الأصوات وفق الشرع الكنسي، ولـمّا طالت مدة الانتخاب لأربعة أشهر، تدخّل البابا بيوس الثاني عشر، وعيّن في 25 أيار 1955 رئيس أساقفة صور، بولس المعوشي، بطريركًا، ولم يعترض المطارنة على التعيين أو طعنوا في شرعيته، ليكون بذلك البطريرك المعوشي، البطريرك الوحيد الذي لم ينتخب في القرن العشرين.
شارك البطريرك المعوشي في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني الذي انعقد بين عامي 1963 و1965 ؛ كان له موقف بارز في المجمع المذكور حين طالب بولاية البطاركة الشرقيين على أتباع طوائفهم خارج النطاق البطريركي فيما يعرف اليوم باسم “أبرشيات الاغتراب”، وهو ما تمّ له فعلاً. ومن ثم قبيل ختام المجمع في 22 فبراير 1965 منحه البابا بولس السادس لقب كاردينال. فكان اول بطريرك في سلسلة البطاركة الموارنة يصبح كاردينالاً، وثالث بطريرك يشترك في أعمال مجمع مسكوني. أقام في بكركي والديمان.
زار الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وروما. وأنشئت أبرشية صربا والنيابة البطريركية في دمشق، كما أنشئت في عهده ثلاث أبرشيات في المهجر وهي : أبرشية البرازيل (سان باولو)، وأبرشية الولايات المتحدة الأميركية (دترويت، حاليًا نيويورك) واستراليا (سدني). وتوّحدت المحاكم الكنسيّة في الطائفة.
شهدت بطريركية المعوشي أيضًا إعلان تطويب شربل مخلوف الراهب اللبناني الماروني، سنة 1965 في ختام المجمع الفاتيكاني المسكوني الأوّل، وهو أول ماروني يرفع على المذابح في العصر الحديث ؛ كذلك أعلن الفاتيكان خلال حبرية المعوشي فتح دعوى تطويب نعمة الله الحرديني ورفقا الريّس. أما على صعيد العمل الكنسي أصدر المعوشي عام 1973 طقسًا محدَّثًا للقداس الماروني على سبيل الاختبار، وهو مؤلف من نافور ورتبة واحدة فقط، تمهيدًا لبدء عملية تجديد طقسي، كان من المقرر أن تكون مدة الاختبار عامًا واحدًا فقط بيد أنّ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية أدى إلى تأخير عملية التجديد الطقسي، ولم تصدر الرتبة الجديدة الكاملة للقداس إلا في عهد البطريرك نصر الله بطرس صفير عام 1992. وفي أيامه أعلن معهد الروح القدس في الكسليك جامعة تعترف بها الدولة اللبنانية.
على الصعيد العمراني، قام البطريرك المعوشي بوضع حجر الأساس لبازليك سيدة لبنان المبني بالقرب من تمثال سيدة لبنان في حريصا وذلك عام 1970، كما قام بترميم وتوسيع وتجديد الصرح البطريركي الماروني الشتوي في بكركي عام 1973، والصرح في الديمان أيضًا. جدّد البيت اللبناني في باريس وفي مرسيليا. شيَّد للبطريركيّة أبنية في الحازمية واستصلح لها أراضي في كفرزينا. أنشأ أخيرًا مؤسّسة على اسمه في جزين، تكون بيتًا لليتيم وللعاجز المشرف على مساء الحياة. وقد أولى غبطته الأوقاف البطريركية انتباهًا خاصًّا. فعمل على تنظيم شؤونها، وضبط مداخيلها، وتحسين انتاج أراضيها.
لعب البطريرك المعوشي دورًا وطنيًا بارزًا، وقيل عن حقٍّ أنّ مجد لبنان والعرب والشرق قد أعطي له. فكان بطريرك الانفتاح بحكمة على العالمين العربي والغربي. وكان موقفه كموقف سلفه البطريرك أنطون عريضة مؤيّدًا لاستقلال لبنان، ولكن مع تعاونه وانفتاحه على الشرق. عارض بقوّة، كالبطريرك عريضة، الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.
من الناحية السياسيّة، كان البطريرك مؤيّدًا لفكرة القومية العربية، هذا ما جعل علاقته مع بعض الأفرقاء الموارنة داخل لبنان معقّدة للغاية، خصوصًا إثر أحداث عام 1958، وكذلك علاقته مع رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك كميل شمعون لم تكن جيّدة، وهو الذي لقّبه ب”محمد المعوشي”، يعود ذلك لدعم الرئيس شمعون لحلف بغداد، بينما وقف البطريرك ضدّه. وعندما قام مشاة البحرية الإمريكية المارينز بإنزال في بيروت صرح البطريرك : “عندما تطأ أول رجل لجندي أميركي لبنان، سأكون أول الذين يخوضون المعركة”. وفي الوقت ذاته خلال تنامي التيّار الناصري في أعقاب الجمهورية العربية المتحدة، استطاع البطريرك المساهمة في الحافظ على استقلال لبنان، رغم أن صداقة جمعته مع جمال عبد الناصر ؛ وكذلك وقف ضد اتفاق القاهرة عام 1969 لـما وجد به من مساس بسيادة الدولة اللبنانية تجاه الوجود الفلسطيني المسلّح. وعندما اندلعت أحداث عام 1958 إثر اتهام المعارضة الممثَّلة “بالجبهة الاشتراكية الوطنية” لكتلة كميل شمعون – رياض الصلح بتزوير الانتخابات بهدف ضمان ولاية رئاسية ثانية لشمعون، ومن ثم تحولت هذه الاحتجاجات لانتفاضة مسلّحة في أعقاب اغتيال الصحفي نسيب المتني واتهام السلطة باغتياله، لعب البطريرك دورًا بارزًا في إنهاء الأزمة ودعم في انتخابات الرئاسة قائد الجيش فؤاد شهاب، وهو ما تمّ فعلاً ؛ لكن العلاقة مع فؤاد شهاب بعد تسلّمه مقاليد الرئاسة، اتسمت بالوفاق لفترة وجيزة فقط، تلتها مرحلة من التباعد والخلاف وقيل إن صداقة البطريرك لعبد الناصر لم تكن بعيدة عنها. وقيل أيضًا إن علاقة الرئيس القويّة بالنائب البطريركي العام المطران يوسف الخوري، هو ما دفع البطريرك للضغط على مجلس الأساقفة الموارنة، لتعيين الخوري مطرانًا على صور والأراضي المقدسة، وهي أبعد أبرشية في لبنان. وقد حاول السفير البابوي في لبنان إصلاح الوضع، ولفت إلى أن تصريحات الرئيس والبطريرك تُنقل بقليل من الدقة ما يساهم في تعميق الهوّة بين الرجلين. كما يُنسب للبطريرك المعوشي عبارة : “أنا الثابت وهو العابر… قُلْ للذي تحت (شهاب في صربا تحت بكركي) إنّ لا شيء يدوم”.
توفي البطريرك أنطون المعوشي في 11 كانون الثاني سنة 1975، وذلك قبل شهرين من اندلاع الحرب اللبنانية الأهلية، ودفن في مدافن الصرح البطريركي في بكركي على رجاء القيامة السعيدة. وكتب عنه المؤرخ الأب ميشال الحايك : “إنّ أيّ بطريرك ماروني جديد سيجيء ليرأس إمّا مأتم المارونية وإمّا ميلادها في العصر. منه سيكون البدء الماروني أو على يده النهاية”.