ولد البطريرك أنطونيوس خريش في بلدة عين إبل، قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان، في 30 أيلول 1907. فكان البطريرك الثاني الآتي من جنوب لبنان، والثاني أيضًا الذي يحمل إسم انطونيوس.

تلقّى أنطونيوس خريش دروسه في مدرسة القديس يوسف في عين إبل. ولـمّا تبيّنت ملامح دعوته الكهنوتية، التحق بالمدرسة المارونية الرومانية، وتابع دروسه في جامعة نشر الايمان وهو بعد في الثالثة عشرة من عمره، فنال شهادة الدكتورة في الفلسفة بتفوق تام وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، مثيرًا بذلك إعجاب أساتذته ورفاقه في الجامعة، بذكائه وسرعة خاطره وقوة ذاكرته. من عين إبل أستقى أنطونيوس “الطيبة الذكيّة”، ومحبة الناس، والشغف بالمعرفة والاطلاع، والنمط البسيط في الحياة، والتقوى، وتلك الأصالة المعبّر عنها في التمسّك بالتقاليد مهما تعصرنت الحياة. حافظ أنطونيوس، في جميع محطات سيرته، على لهجته العين إبلية، المتوارثة والمطبوعة بالعيش المشترك في بيئة تعدّدية.

سيم كاهنًا في 12 نيسان 1930 في صور. وقام بمهمّة التعليم في مدرسة مشموشة التابعة للرهبانية اللبنانية المارونية أولاً، ثمّ في مدرسة الحكمة في بيروت اللغة الفرنسية والفلسفة العامة واللاهوت. ونزولاً عند طلب المطران بولس المعوشي، مطران أبرشيته، التحق بأبرشية صور بصفة أمين سر ونائب أسقفي، وقام بخدمة رعية حيفا المارونية في فلسطين، ورأس فيها المحكمة الكنسية. نظّم سجلاّتها بطريقة عصرية تمكّنه من متابعة شؤون أبنائه والسهر عليها، فأحبّه أبناء الطائفة المارونية وأبناء سائر الطوائف المسيحية الأخرى بحيث اقترح أحد المحامين من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية على رؤسائه بأن يكون الخوري والقاضي الكنسي الماروني أنطونيوس خريش قاضيًا كنسيًا لجميع المسيحيين في حيفا، من الكاثوليك والأرثوذكس. فكان قاضيًا عادلاً مستقيمًا ونزيهًا.

في تشرين الثاني 1936، عيّن نائبًا اسقفيًّا في فلسطين وخادمًا لرعية حيفا ورئيسًا للمحكمة الكنسية في عموم أبرشية صور وتوابعها. فأعاد تنظيم جمعية “الشبيبة المارونية” و”الكشافة المارونية”، وأنشأ “أخوية قلب يسوع”، و”جمعية السيدات المارونيات”، وأنشأ مسرحًا صيفيًّا لاقامة الحفلات والاحتفالات. رمّم المدرسة المارونية وأعاد فتحها، ونظّم سجلات الرعية تنظيمًا كاملاً واضعًا لها فهارس.

على أثر نكبة فلسطين عام 1948 ونزوح مئات الألوف إلى لبنان، عاد المونسنيور أنطونيوس خريش إلى القسم اللبناني من أبرشيته صور، كاهنًا وقاضيًا، ونائبًا لرئيس اللجنة البابوية لغوث اللاجئين الفلسطينيين. كانت ظروف اجتماعية وإنسانية صعبة أبدى فيها حسن التدبير والغيرة على المشرّدين والفقراء الذين التجأوا إلى منطقة صور في جنوب لبنان.

تقديرًا لهذه الجهود، عيّنه قداسة البابا بيوس الثاني عشر، في 28 آب 1950، مطرانًا معاونًا لأبرشية صيدا، وجرى الاحتفال بسيامته الأسقفية في الديمان في 15/10/1950، بوضع يد البطريرك  أنطون عريضة، وعيّن على الأثر معاونًا للمطران اغوسطينوس البستاني في صيدا، ثم مدبّرًا رسوليًا بعدٍ وفاة المطران أغوسطين البستاني،  فأسقفًا أصيلاً على الأبرشية في 25/11/1957.

 بين سنوات 1950 و1957، وهي فترة زمنية وقع في أثنائها زلزال أتى على أجزاء من مناطق الجنوب اللبناني والشوف والبقاع الغربي، ومعظمها واقع في نطاق أبرشية صيدا المارونية، كان على المطران الجديد أن يواجه وضعًا اجتماعيًا وعمرانيًا عسيرًا. فراح يعمل على إيجاد السبل لترميم عشرات الكنائس والمؤسسات الدينية والأوقاف، وعلى بناء مؤسسات أخرى جديدة. في موازاة اهتمامه بشؤون الحجر لم يهمل خصوصًا شؤون البشر. فبذل قصارى جهده لينقل المؤسسة الكنسية من إطارها التقليدي إلى إطار عصري كان فيه للتربية والتعليم والتنشئة المستديمة للكهنة، والضمان الاجتماعي للكهنة المسنّين والمرضى قسط لافت. فكان المطران خريش، من خلال هذا النهج الرعوي، من السبّاقين في خوض هذه الميادين الاجتماعية التي كانت الكنائس الغربية، والمجتمعات المعاصرة، توليه أهمية كبرى في برامجها وسياساتها.

كان عضوًا في لجنة الأساقفة وإدارة الأبرشيات الاعدادية للمجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1960-1962، وعضوًا للجنة المجمعية الخاصة بنظام الاكليروس والشعب المسيحي طيلة انعقاد المجمع. وكان رئيسًا للجنة القانونية لمجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان منذ تأسيسه سنة 1967 لغاية 1972، ورئيس اللجنة التنفيذية للمجلس المذكور منذ 1967 وعضوًا في المجمع الروماني لدعاوى القديسين منذ 1970، ومدبّرا مفوّضًا للبطريركية المارونية ونائبًا عامًّا للأبرشية البطريركية في 11 نيسان 1974. كما أسّس “هيئة نصرة الجنوب” في أيار 1970 و”كاريتاس لبنان الجنوبي” في صيف 1972.

 إنتخبه مجمع الاساقفة بطريركًا بالاجماع في بكركي في 3 شباط سنة 1975، ونصّب على كرسيّ أنطاكيا في عيد مار مارون في 9 شباط، وذلك قبل شهرين من اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانية. فكان البطريرك الماروني الخامس والسبعين، في سنة 1975. سلّمه البابا بولس السادس درع التثبيت في روما في 27 تشرين الثاني سنة 1975.

شهدت حبريته ويلات الحرب الأهليّة اللبنانية التي بدأت في 13 نيسان 1975، وما رافقها من مآسي طالت الشعب المسيحي. فلعب دورًا وطنيَّا توفيقيَّا مميَّزا، واهتم بالمهجرين والمعوزين. زار روما وفرنسا والولايات المتحدة وحضر سينودس الأساقفة الذي ينعقد في روما كل ثلاث سنوات. في أيّامه أيضًا وبرعايته، عقد أول مؤتمر ماروني عالمي في المكسيك سنة 1979، والمؤتمر الثاني في نيويورك سنة 1980. عيّنه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني كاردينالاً في 2 شباط 1983، فكان البطريرك الماروني الثاني الذي يرفع الى هذا المقام. قدّم استقالته من البطريركية بعد تطويب الأخت رفقا في روما في تشرين الثاني سنة 1985، وقُبِلَت في 25 من الشهر عينه، وعيّن المطران ابراهيم الحلو مدبِّرًا بطريركيًّا في 26 تشرين الثاني 1985 وبقي حتى 19 نيسان 1986، لحين انتخاب البطريرك نصرالله صفير.

تميّزت ولاية البطريرك خريش بروح البساطة والحوار والدينامية الهادئة. وتميّز بروحه المسالمة وحبّه للعدالة والحقيقة. فكان أستاذ الفلسفة والقانون، والمتشبّع بروح المجمع الفاتيكاني الثاني. جعل همّه في كل حياته، وبخاصة أثناء ولايته البطريركية، أن يرضي الله وضميره قبل كل شيء.

أهمّ إنجازاته :

– على الصعيد الماروني :

كان اهتمامه مميزًا في شؤون التربية الكهنوتية، في المدرسة الإكليريكية في غزير، وفي كلية اللاهوت الحبرية في جامعة الروح القدس- الكسليك. بادر إلى تنظيم اجتماعات الكهنة الشهرية في الابرشية البطريركية، وعمد على تأسيس صندوق ضمان للكاهن في ايام الشيخوخة وأوقات المرض. أمّا بالنسبة الى الاوقاف والشركاء، بدأ بدرس حلّ لمشكلة شركاء البطريركية في الديمان. كما سهر على تأمين التعليم الديني في المدارس الرسمية والخاصة. وساهم بتأسيس وتنظيم بعض المشاريع الاجتماعية والإنسانية : كالإعداد للمجمع البطريركي الماروني وتأسيس الأبرشيات الجديدة في النطاق البطريركي وعالم الانتشار : أبرشية البرازيل 1971، أوستراليا 1973، اللاذقية 1977، بروكلين 1977 وكندا 1982، و”مشروع اتحاد العائلات” الذي ظهر للنور لاحقًا من خلال ما يعرف بالصندوق الماروني والمشاريع الإسكانية والإنمائية المتصلة به. كما سهر للحفاظ على وحدة الكنيسة المارونية واستمرارها، عبر تحقيق المصالحة المارونية الداخلية، ولا سيّما منها مسألة أهدن.

كان همّ البطريرك خريش العمل على توحيد الطائفة. إلاّ أن حدّة الانقسامات بين أبناء الطائفة والخلافات الدموية وسيف الحرب ظلّ هو الأقوى. فكانت أصوات المدافع أقوى منه، فظلمت دوره، لأنّ الموارنة خذلوا بطريركهم ذا الشخصية الوديعة، التي لم تستطِع أن تجبه عمالقة الحرب والسياسة، بعد محاولته القيام بدور الحكم. فكان الأب الروحي للجميع، التزامًا تراث وعقيدة ثابتة في تاريخ المارونية ومتأصلّة في إنجيل التطويبات. مواقفه حكيمة، غير آبهة أحيانًا بالتهديد الذي كاد يؤدّي به إلى الاستشهاد. مواقف تدحض ما نُسب إليه ظلمًا من عجز وضعف بمقاييس القوة البشرية، مبرهنة في محطات عديدة، من حياته، شابًا وكاهنًا ثم بطريركًا، عن شجاعة نادرة في مواجهة الموت دفاعًا عما يعتبره واجبًا وحقًا.

ب- على الصعيد المسكوني والحوار المسيحي الإسلامي:

انطلقت في عهد البطريرك دينامية غير مسبوقة، فأصبحت لقاءات البطاركة والأساقفة الكاثوليك شبه منتظمة بعد أن كانت من الأمور النادرة في عهد البطريرك المعوشي. إلى ذلك كانت بكركي مسرحًا بل مركزًا لقرارات جريئة في شأن الحوار المسيحي الإسلامي. عمل البطريرك خريش على ألاَّ يصدر بيان عن أحدهم، أو عن  المؤسسات التي يمثِّلها كل منهم، من دون تشاور في ما بينهم، وذلك لكي يأتي الإعلان -بقدر الإمكان- منسجمًا مع روح الوحدة والعيش المشترك، ولكي يقطعوا على أصحاب النظريات الطائفية أي استغلال لها. عرف عن البطريرك أيضًا، بالإضافة إلى هذا الانفتاح، دعوته الصريحة إلى علمنة الدولة وتأييده للزواج المدني، الأمر الذي جعل شخصيته أكثر مقبوليةً من جهة الأحزاب والتيارات التقدمية واليسارية المناهضة لسلطة رجال الدين (أنتي كليريكال). فأقام إلى جانب الحوار المسيحي الإسلامي، حوارًا شبه موازٍ له هو الحوار المسيحي اليساري، حوار لم تعمل المؤسسة الكنسية فيما بعد على تشجيعه وتنميته.

أقام في بكركي شتاءً والديمان صيفاً، وإن توقف بعض سنوات الحرب عن الصعود إلى الديمان. وخلال حبريته، رُفِعَ الطوباوي شربل مخلوف، في 9 تشرين الأول سنة 1977 إلى مرتبة القديسين، وأعلنت الراهبة اللبنانية المارونية رفقا الريّس طوباويّة في 17 تشرين الثاني سنة 1985.

قدّم إستقالته في 27 تشرين الثاني 1985 فبادر الكرسي الرسولي إلى تعيين راعي أبرشية صيدا ودير القمر المارونية المطران ابراهيم الحلو مدبراً بطريركيًّا للكنيسة المارونية، ما دفع معظم المطارنة لرفع كتاب إلى حاضرة الفاتيكان يعلنون فيه عدم تحبيذهم فكرة تعيين بطريرك لأنه يحق للطائفة المارونية أن تختار البطريرك بنفسها، وكانت تجربة البطريرك المعوشي ما تزال ماثلة، فكان لهم ما أرادوا.

بعد إستقالته عاش البطريرك خريش في دير بكركي، وتوفي فيه في 19 آب 1994، ودفن في مدافن البطاركة في صرح بكركي.