عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – مدرسة السّيدة مجدليّا لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات
عظات
“أنتم نور العالم. لا تخفى مدينة مبنيّة على جبل”
(متى 5: 14)
1. يسوع المسيح نور العالم (يو 9: 5) جعل من المؤمنين به والمؤمنات، المستنيرين من نور شخصه وكلامه، نورًا للعالم. ففي عظة الجبل، الّتي تبدأ بالتّطويبات، وأرادها الرّب يسوع دستور الحياة المسيحيّة، قال لتلاميذه وللجموع: “أنتم نور العالم. لا تخفى مدينة مبنيّة على جبل، ولا يوقد سراج ويوضع تحت وعاء بل في مكان مرتفع، حتّى يضيء لجميع من هم في البيت. فليضئ نوركم أمام النّاس ليروا أعمالكم الصّالحة، ويمجّدوا أباكم الّذي في السّماوات” (متى 5: 14 و16).
2. هذه الآية الإنجيليّة جالت في خاطر البطريرك الكبير خادم الله الياس الحويّك، عندما عقد الّنية على تأسيس جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، سنة 1895. هذا ما كتبه لبناته الرّاهبات في 16 تمّوز 1924. وأضاف: “رغبتنا منذ ذاك الحين أن تكون جمعيّتكنّ المباركة مدينةً مشيّدة الأركان على جبلنا المقدّس؛ وسراجًا ساطعًا يرسل أشعّته الوضّاءة من أعالي ذراه، فينير الجميع، ويرشدهم سواء السّبيل، ذلك ليس فقط بالتّعليم والتثقيف الّذي يُسدُّ كلّ خلل، ويقوّم كلّ اعوجاج يطرأ على الحياة العائليّة، وبالتّالي على الحياة الإجتماعيّة، بل وبخاصّة بالسّيرة الملائكيّة والكمالات المسيحيّة الّتي يُعطِّر شذاها الأرجاء، ويكون تأثيرها أنجع وأفعل في النّفوس من سواها”.
وهكذا انطلقت الجّمعيّة تؤسّس المدارس في مختلف المناطق اللبنانيّة، وتربّي الأجيال، وتساعدها على السّير في نور المسيح ونور العلم والمعرفة، وتعمل من أجل إعداد عائلات مسيحيّة ملتزمة، ومجتمع أفضل.
3. يسعدنا اليوم أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة إحياءً لمرور ستّين سنة على تأسيس مدرسة السّيدة هنا في مجدليّا العزيزة. وقد أنشأتها جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة نزولاً عند طلب أبناء البلدة الملحّ، وفي طليعتهم الخوري بيوس البعيني والسّيدة ماري إيليّا البعيني والمختار الياس خطّار. فبدأت المدرسة في بيت الشّيخ فرنسيس البعيني بستّين تلميذًا. هذا ما نقرأه في سجلاّت الجمعيّة اليوميّة. ثمّ توسّعت المدرسة على عقار تابع للوقف، وبعده على عقار ابتاعته الجمعيّة، حتّى بلغ عدد التّلامذة سنة 1974 سبعماية وخمسين.
4. إنّنا نحيّي الجمعيّة العزيزة بشخص رئيستها العامّة الأم أنطوانيت سعاده، ورئيسة المدرسة الأخت ماري جرمان طانيوس، وجمهور الرّاهبات، والأسرة التّربويّة فيها، إدارة وهيئة أساتذة وتلامذة وأهالي. نحيّي كلّ الرّاهبات الأحياء اللواتي تعاقبن على إدارة هذه المدرسة والعمل فيها بدءًا من الأخت ألكسين خشّان. ونذكر بصلاتنا كلّ اللواتي سبقننا إلى بيت الآب، وكلّ المحسنين الّذين واكبوا الـّاسيس. ونحيّي كل أبناء مجدليّا العزيزة والمنطقة الّذين اختاروا هذه المدرسة لتربية أولادهم علميًا وروحيًا وأخلاقيًا ووطنيًا. إنّ هذه التّربية النوعيّة تندرج في عمق رسالة جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، كما شاءها لها مؤسّسها خادم الله البطريرك الياس الحويّك، رجل العناية الإلهيّة. ونحن نصلّي مع الجمعيّة مواكبين دعوى تطويبه سائلين الله أن يُظهر قداسته، وترفعه الكنيسة على مذابحها. أجل، لقد شاءها المؤسّس جمعيّة تُعنى بتربية الأجيال الطّالعة “على سنن الدّيانة ومبادئ الفضيلة الّتي تعمّر البيوت ، وتحفظ العيال، وتصون الهيئة الإجتماعيّة من الفساد”، كما كتب في رسالته إلى بناته الرّاهبات في 14 آب 1915.
5. لقد مرّت مدرسة السّيدة في مرحلتين صعبتين اضطرّت إلى إقفال أبوابها. الأولى كانت في كانون الأوّل 1975 مع بدايات الحرب المشؤومة. وبسب وقوعها بين المهاجمين والمدافعين، طالها الحرق والنّهب والتّخريب والتّدمير. فتوقّفت لمدّة أربع سنوات. ثمّ فتحت أبوابها في تشرين الأوّل 1979 بعد أن ضمّدت جراحها ولملمت شتاتها وجدّدت مبانيها. وكان الإقبال عليها كبيرًا فاضطرّت الجمعيّة إلى توسيع رقعة المدرسة فابتاعت أربعة عقارات، وزادت في الأبنية والملاعب. وكانت المرحلة الثّانية من سنة 1983 إلى 1985، من جرّاء معارك طرابلس، إذ سطا عليها عناصر غير منضبطة من المسلّحين عاثوا فيها نهبًا وتخريبًا. ولكنّ الرّاهبات صمدن في المدرسة متحمّلات، كغيرهنّ من اللبنانيين، الصّعوبات الجمّة، محرومات من الكهرباء والمياه والهاتف. ولكن بعزيمة أكبر انطلقن من جديد، وبنين طوابق جديدة، ومنشآت رياضيّة ومسرحيّة، وأجرين تحديثات في المختبرات، وطوّرن المناهج التّربويّة والأساليب التّعليميّة، وأمّنّ تنشئة الكوادر التعليميّة والتّربويّة في المعاهد المتخصّصة. وهنّ يتذكّرنّ طيلة هذه الأحداث والمتغيّرات والتّطوّرات، كلمة المؤسّس في رسالته لهنّ بتاريخ 14 آب 1915: وفيها “أنّ الله، سبحانه وتعالى، قد أنشأ هذه الجمعيّة العزيزة بعنايته ورحمته؛ وهو الّذي أنماها وحفظها حتّى الآن مصونة من كلّ عيبٍ وخلل، وهو الّذي يحفظها ويباركها إلى منتهى الدّهر… بالحقيقة إنّ جمعيّتكن هي حَرثُ الله وبناء الله الّذي شاءه بتحنّنه ورحمته نحو بلادنا”.
6. واليوم تمرّ مدارسنا الكاثوليكيّة والخاصّة ومدارسنا المجّانيّة في مرحلة تهدّد وجودها من جرّاء القانون 46/2017 الخاص بسلسلة الرّتب والرّواتب، إذا لم تتحمّل الدّولة كلفة الدّرجات السّت، لكون المدرسة الخاصّة كالرّسميّة ذات منفعة عامّة، فيما المدرسة تتحمّل موجبات السّلسلة وفقًا للملحق 17 من القانون 46، كما قرّر اتّحاد المؤسّسات التّربويّة الخاصّة في اجتماع بكركي التّربوي المنعقد في أولّ شباط الماضي. أمّا إذا تهرّبت الدّولة من هذه المسؤوليّة، وقعت البلاد في أزمتين كبيرتين: الأولى تربويّة هي إقفال عدد لا يُستهان به من المدارس، ولا سيّما مدارس الجبل والأطراف؛ والثّانية اجتماعيّة هي زجّ عدد لا يُستهان به من الإداريّين والمعلّمين والموظّفين في حالة البطالة والعوز. فالمدرسة حريصة ليس فقط على بقائها من أجل حماية رسالتها، بل ومن أجل حماية أهالي التّلامذة من زيادة مرهقة للأقساط، هي مرغمة عليها و لا تريدها؛ ومن أجل حماية حقوق المعلّمين وحفظ فرص عملهم وإنتاجهم؛ ومن أجل حماية حقّ التّلامذة في تحصيل العلم في مدرسة خاصّة، يختارها لهم أهلهم بحكم حريّة التّعليم والاختيار، وفقًا للدستور.
فإنّنا نجدّد معكم النّداء والتّحذير إلى فخامة رئيس الجمهوريّة والحكومة والمجلس النّيابي، في هذا الوقت الّذي تُناقش فيه الموازنة العامّة، وتعقد المؤتمرات الدّوليّة، مشكورة، لدعم لبنان على التّوالي في روما للجيش والقوى الأمنيّة وفي باريس للإنماء الإقتصادي، وفي بلجيكا لسدّ حاجات النّازحين السّوريّين.
7. “لا يوقد سراج ويوضع تحت وعاء” (مت 5: 15). عندما يوضع السّراج المضيء تحت وعاء ينطفئ. هذا الكلام ينطبق على مدارسنا، وهي السّراج الكبير فإذا ارهقت بتداعيات القانون 46/2017 بسبب تملّص الدّولة من تحمّل واجبها تجاهها، فإنّها تُرغم على إقفال أبوابها، فينطفئ نورها. وهكذا تقع كلُّ المسؤوليّة على السّلطة السّياسيّة، مع كلّ النتائج التّربويّة والإجتماعيّة الوخيمة.
8. “أنتم نور العالم“. هذه هي هوّيتنا المسيحيّة ورسالتنا في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدّولة. نحن نور بمقدار ما نتّحد بالمسيح الّذي هو نور العالم (يو 8: 12)، وبقدار ما نستنير من كلام الله الّذي نعكسه في حياتنا وأعمالنا والمبادرات. ونكون بدورنا نورًا للعالم، بمقدار ما نمتلك كلام الله في قلوبنا وعقولنا.
نسأل المسيح الإله، أن يملأنا من نوره، ويؤهّلنا لنعكس هذا النّور في كلّ عمل وقول وموقف. فنرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *
PHOTOS: Patriarch RAI visit to Mejdlaya_17.3.2018