عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي في حملايا
عظات
“المطلوب واحد، ومريم اختارت النّصيب الأفضل” (لو 42:10)
1. عزّزت مريمُ ومرتا الجمعَ بين سماع كلمة الله، والانصراف إلى العمل. فسماع الكلمة يولّد الإيمان ويثقّفه، والإيمان يحرّك القلب والإرادة على العمل الصّالح والخلّاق والمحبّ في جميع قطاعات الحياة الكنسيّة والاجتماعيّة والوطنيّة. وبما أنّ سماع كلام الله هو الأساس، أجاب الرّبّ يسوع مرتا: “بأنّ المطلوب واحد، ومريم اختارت النّصيب الأفضل” (لو 10: 39 و 42).
2. تحتفل الكنيسة اليوم بعيد القديسين الرّسولين الشّهيدين بطرس وبولس، المميَّزين بالايمان وبعمل المبشّرَين بسرّ المسيح وبإنجيله الخلاصيّ، واللّذين استشهدا في روما سنة 67 بأمرٍ من الامبراطور نيرون الطّاغية: بطرس صلبًا على تلّة الفاتيكان، وبولس بقطع رأسه خارج أسوار المدينة. غير أنّهما بفضل شهادتهما واستشهادهما بدّلا روما من مدينةٍ وثنيّةٍ، عاصمةِ الامبراطوريّة الرّومانيّة، إلى مدينةٍ مسيحيّةٍ، عاصمةِ الكثلكة. كلّ ذلك بقوّة كلمة الله التي سمعاها وعملا بموجبها.
3. ونحن في حملايا، بلدة القدّيسة رفقا، نحتفل بذكرى ميلادها. فقد أبصرت النّور في 29 حزيران 1832، وسُمّيت “بطرسيّة“. وكان الإسم صخرةَ إيمانٍ بنَتْ عليه حياتها كلّها بمختلف محطّاتها. طفلةً وصبيّةً في حملايا وبينهما أجيرةً في منزلٍ بدمشق، وناذرةً في جمعيّة المريمات في بكفيّا ورسولةً، ثمّ راهبةً في الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، وشريكةً في آلام الفداء.
لكنّ الأساس في حياتها سماعُها الدّائم لكلام الله، قراءةً وتأمّلاً وصلاة. هذا ما بدأَتْه على هذه التلّة بالذّات، في سنوات طفولتها وصباها. وها هي تعود إليها قدّيسةً بكنيستها ومزاراتها ومعالم حياتها، بفضل تعاونكم وسخائكم يا أهلنا في حملايا الأحبّاء، وعمَلِ أهل الفنّ. إنّ جمالات ما أنشأتم في هذا المكان العزيز على قلبها، وكأنّها إرادته في عميق رغبتها، إنّما يحمل الزوّار المؤمنين على التّأمّل والصّلاة والإصغاء لكلام الله.
فيسعدني جدًّا، في ختام المسيرة التّقويّة التي قمتم بها من كنيسة سيّدة النّجاة في بكفيّا، أن أحتفل معكم بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة التي نحيي فيها عيد القدّيسَين الرّسولَين بطرس وبولس، وذكرى مولد القدّيسة رفقا. فنلتمس بشفاعتهم نعمة الاصغاء لكلام الله، وقبولِه في قلوبنا، لكي يُثمر ثقافةً جديدةً وأعمالاً صالحةً، على مثالهم. وإنّا نقدّم هذه الذّبيحة المقدّسة من أجلكم ومن أجل عائلاتكم وأجيالكم الجديدة، وأعمالكم. ونذكر المرضى راجين لهم الشّفاء، والموتى الذين سبقونا إلى بيت الآب، ملتمسين لهم المشاهدة السّعيدة في السّماء.
3. بالعودة إلى الإنجيل، جميلٌ أن نسمع تأمّل القدّيس أغسطينوس فيه، قال: “تنازل الله واتّخذ جسدًا لأجلنا، فجاع وعطش، وارتضى أن يُطعمه الذين أغناهم. إستضافته مرتا في بيتها وأعدّت طعامًا لمن هو قدس الأقداس، أمّا مريم فجلست إلى مائدة خبز الحياة. جاء يسوع، حاملاً الخبز السّماويّ لبني الأرض، وقد أصبح واحدًا منهم، ويحتاج إلى طعامهم. لكنّه أراد بجوابه إلى مرتا أن يبيّن حاجة بني الأرض إلى طعامه للحياة الأبديّة، كما قال يومًا: “أنا هو الخبز النّازل من السّماء ليأكل منه الإنسان، فلا يجوع” (يو35:6). كانت مرتا تهيّئ للرّبّ طعامًا وفيرًا، فيما مريم كانت تغتذي من كلام الحياة والبرّ والصّلاح. كانت مريم تأكل ممّا كانت تستمع إليه، أي كانت تأكل الحقّ ممّن قال عن نفسه “أنا الحقّ والحياة” (يو6:14). هذا هو “النّصيب الأفضل الذي اختارته مريم، فلا يُنزع منها” (لو42:10).
4. إنطلاقًا من هذا المفهوم لحادثة الإنجيل، نؤكّد أنّ حياتنا المسيحيّة تقوم على ثلاثةٍ متكاملةٍ ومترابطةٍ: سماع كلمة الله التي تولّد الإيمان بالمسيح؛ الإيمان الذي يقودنا إلى لقاء الرّبّ الخلاصيّ في الأسرار وبخاصّة القدّاس الإلهيّ؛ ونعمة الأسرار التي تقدّسنا وتدفع بنا إلى عيش المحبّة الاجتماعيّة تجاه الفقراء والمعوزين.
بهذه الثّلاثة كوّنت القدّيسة رفقا هويّتها، ومنها استمدّت الرّوحانيّة لمحطّات حياتها، وبها بلغت البطولة في القداسة.
فمرارة اليتم وهي في السّابعة من عمرها بفقد والدتها رفقا، جعلتها “زنبقة حملايا” كما سمّاها مرشدها الخوري يوسف الجميّل. لقد فاح عطر هذه الزّنبقة في جمعيّة المريمات التي أرسلتها للخدمة والتّعليم المسيحيّ والتربية.
5. في الشبّانيّة أُرسلت للسّهر على الفتيات في معمل حياكة، ولتلقينهنّ التّعليم المسيحيّ. في إكليريكيّة غزير عُهدت إليها خدمة المطبخ للإكليريكيّين لمدّة سبع سنوات، فكانت تتعب كثيرًا كما أسرّت لرئيستها الأم أورسلا. وكان من بين الاكليريكيّين المكرّم البطريرك الكبير الياس الحويّك والمطران بطرس الزّغبيّ. كانت في أوقاتها الحرّة تتعلّم اللّغة العربيّة حتّى أتقنتها، وتطالع الكتاب المقدّس وتتأمّل فيه، فاستظهرت أكثره. في دير القمر، حيث نُقلت إلى دير الآباء اليسوعيّين سنة 1860، تولّت عمل الرّسالة الرّوحيّة والتّعليم المسيحيّ والخدمة في الدّير، وعاشت فواجع المذابح. وهناك خبّأت طفلاً تحت ردائها كان الجنود يطاردونه ليمسكوه ويذبحوه. في مدرسة جبيل للرّاهبات اليسوعيّات، تولّت تدريس التّعليم الدّينيّ والحساب والجغرافيا والتّرتيل الكنسيّ. فظهرت مواهبها وأسلوبها التربويّ وفضائلها ولاسيّما وداعتها ورفعة أخلاقها. في معاد قضت سبع سنوات لتعليم الفتيات. وكانت آخر محطّة. إذ، وهي هناك حُلّت مؤقّتًا جمعيّة المريمات فأوحيَ إليها الدخول إلى الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة في دير مار سمعان أيطو.
6. في هذه الرّهبانيّة كانت بداية حياةٍ جديدةٍ ضمن حصن الدّير. في 12 تمّوز 1871، وهي بعمر تسعٍ وثلاثين سنة. كانت الرّهبانيّة تتنشّق في تلك الحقبة أريج الأب نعمة الله كسّاب الحردينيّ والأب شربل مخلوف والأخ اسطفان نعمه. بدأت جلجلة آلامها بعد أربع عشرة سنة من دخولها، ثمّ أضحت ذبيحةً لله كاملةً عمياء ومفكّكة الأوصال لمدّة سبع عشرة سنة، عاشتها بفرحٍ وترنيم، حتّى لُقّبت “برسولة الألم”. وكانت تستمدّ قوّتها وفرحها وصبرها من القربان الأقدس. لقد بلغت كمال الحياة المسيحية والرهبانية، لأنّها ابتغت “المطلوب الواحد” (لو10: 42)، وهو سماع كلام الله. إنّ الاغتذاء من كلام الله يؤمّن لنا النور الهادي إلى صنع الخير في كلّ عمل روحي أو اجتماعي، اقتصادي أو سياسي، إعلامي أو تجاري. إنّ باب خلاصنا في لبنان من الأزمات المتنوّعة التي تتآكله في مؤسّساته وكيانه، إنّما يمرّ عبر هذا “المطلوب الواحد”: سماع كلام المسيح والعمل بموجبه.
فلننضمّ إلى القدّيسَين الرسولَين بطرس وبولس والقدّيسة رفقا، لنرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *
link for Photos Gallery / http://media.bkerki.org
PHOTO ALBUM:Hemlaya Mass_29.6.2019