عظة البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الرّاعي – بكركي
عظات
“وقف يسوع في وَسَطهم” (لو 24: 36).
1. وقف يسوع في وَسَط جماعة التّلاميذ معلّمًا وكاهنًا ومرسِلاً. علّمهم سرّ موته وحقيقة قيامته التي رمزت إليها كتابات موسى والأنبياء والمزامير؛ كشف لهم آثار ذبيحة كهنوته فدىً على خطايا الجنس البشري وأعطاهم سلامه؛ وأرسلهم ليكرزوا باسمه لمغفرة الخطايا لجميع الأمم، وليشهدوا له بحياتهم. هذه الثّلاثة تشكّل أقسام القدّاس الإلهي الّذي نحتفل به، ونحن متحلّقون كجماعة مؤمنة حول المسيح الإله، وهو في الوسط: يعلّمنا، ويفتدينا ويُجلسنا إلى مائدة جسده ودمه، ويُرسلنا لنُعلن فرح الخلاص باسمه.
2. يسعدنا أن نحتفل بهذه الليتورجيا الإلهيّة معكم، فأرحّب بكم جميعًا، ونصلّي كي يشدّد ربّنا يسوع المسيح إيماننا به، كما شدّد إيمان الرّسل، فملأهم سلامًا وشجاعة بحلول الرّوح القدس عليهم. وفي هذا الزّمن الّذي أضاع فيه عدد كبير من المسيحيين قيمة القدّاس الإلهي مع الجماعة المؤمنة أيّام الآحاد والأعياد، نطلب من كهنة الرّعايا تنشئة المؤمنين على مفهوم يوم الأحد، لكونه “يوم الرّب” الّذي فيه نحتفل بحضور المسيح القائم من الموت، حضورًا حيًّا وفاعلاً في سرّ الإفخارستيا، الّذي فيه نحتفل “الآن وهنا” بذبيحة ذاته غير الدّمويّة لفدائنا، ونتناول من يده “الآن وهنا” جسده ودمه لحياتنا. قال القدّيس إيرنيموس: “يوم الأحد هو يوم القيامة، يوم المسيحيين! إنّه يومنا!“[1].
3. نذكر بصلاتنا اليوم اللبنانيّين الّذين يتوجّهون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب ممثّليهم في النّدوة البرلمانيّة، بحيث يختار كلّ مواطن، أمام الله والضّمير، من يتحلّى بروح الخدمة والتّجرّد، وأظهر تفانيًا في سبيل الخير العام، وتميّز بأخلاقيّته وقيمه الرّوحيّة والإنسانيّة.
لا يحق للمواطن اللبناني، أيًّا يكن السّبب، أن يتخلّى عن الدّور الّذي يمنحه إيّاه الدّستور بتأكيده أنّ “الشّعب هو مصدر السلطات، وصاحب السّيادة، يمارسها عبر المؤسّسات الدّستوريّة” (الفقرة د).
4. لكنّنا ندرك مع الشعب اللبناني أن قانون الانتخاب الجديد يحمل سلبيّات عديدة تشكّى منها على السواء المرشّحون والنّاخبون. ما يقتضي من المجلس النّيابي الجديد المباشرة بتعديله، من دون انتظار الأشهر الأخيرة من ولايته. ومن ناحية ثانية، تشكّى اللبنانيّون من تسخير الوزارات لدعم مرشّحيها للنيابة بشتّى الطّرق. الأمر الّذي يستوجب الفصل بين النيابة والوزارة، وبالتّالي تعديل المادة 28 من الدّستور الّتي تجيز الجمع بينهما، من أجل ضمانة ما ينصّ عليه الدّستور نفسه بأنّ “النّظام اللبناني قائم على مبدأ الفصل بين السّلطات” (الفقرة “ه” من المقدّمة)، ومن أجل تمكين المجلس النيابي من محاسبة الحكومة وعمل الوزارات، نأمل إجراء هذا التّعديل الّذي طالب به عدد من رؤساء الأحزاب، كما سبق ونادى به فخامة رئيس الجمهوريّة.
5. إنّ مشهد ترائي الرّب يسوع القائم من القبر لتلاميذه، يتكرّر في كلّ قدّاس إلهي يجمع الجماعة المسيحيّة. فكما شرح الرّب للتلاميذ “توراة موسى والأنبياء والمزامير، وأعطاهم البراهين عن موته وقيامته”، كذلك يكلّم قلوبنا عندما نسمع القراءات البيبليّة، والعظة الّتي تشرحها وتتوسّع فيها، وتطبّقها على حياتنا. من حقّ كلّ مؤمن ومؤمنة سماع كلام الله، في حالة حياته الخاصّة، وظروفه، وعمره، وأوضاعه؛ وهذا واجب عليه لأنّ الله يكلّمه ويكلّم كل إنسان، ليوجّهه ويقوّيه ويعزّيه ويعضده، ويدعوه، ويزرع في قلبه بذور حياة جديدة. فكلام الله يطرق باب القلب ويغيّره[2].
سماع كلام الله بالقلب حاجة لكي يولد فينا الإيمان، على ما يقول بولس الرّسول: “الإيمان من السّماع، والسّماع يقتضي الكرازة بكلام الله” (روم 10: 17).
6. في ختام هذا التّرائي القرباني، أرسل يسوع تلاميذه : “ليكرزوا باسمه بالتّوبة لمغفرة الخطايا، وليشهدوا لقيامته، لدى جميع الأمم، ابتداءً من أورشليم” (لو 24: 49).
عندما يستنير المؤمنون بكلام الله، ويشاركون في تقديم ذبيحة الفداء صلاةَ شكرٍ لله وتكفيرٍ عن خطاياهم، ويتناولون جسد الرّب ودمه، فإنّهم ينطلقون بإرسال من المسيح للقيام بمهامهم اليوميّة بروح الشّهادة لمحبّة المسيح القائم من الموت. وهكذا يعود كلّ مؤمن ومؤمنة إلى محيطه العادي، مصمّمًا أن يجعل من حياته كلّها عطيّة وذبيحة روحيّة مرضيّة لله (روم 12: 1)، ومستشعرًا واجب إشراك الآخرين في فرح اللقاء بالرّب[3].
7. نصلّي من أجل جميع المسيحيّين، ولاسيّما المسؤولين عن الشّأن العام، كي يعيشوا فرح اللقاء بالمسيح في قدّاس الأحد، ويحملوا هذا الفرح الرّوحي والسّياسي والاقتصادي والاجتماعي والاستقراري إلى جميع المواطنين. وبقلوب يملأها الرّجاء، نرفع معًا نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *
[1] الدّستور المجمعي: للينورجيا المقدّسة، 106؛ البابا يوحنا بولس الثّاني: يوم الرّب، 2.
[2] راجع، البابا فرنسيس: مقابلة الأربعاء العامّة في 14 شباط 2018.
[3] راجع لو 23: 33-35؛ البابا يوحنّا بولس الثّاني: يوم الرّب، 45.