عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – مزار سيّدة القلعة العجائبيّة – شحتول


عظات

 

“ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال لأنّ القدير صنع بي العظائم” ( لو 1 : 48-49 )

.

1. منذ مئة سنة وأجيال شحتول والمنطقة تعطي الطوبى لأمّنا مريم العذراء، هنا في مزار سيّدة القلعة العجائبية. وها نحن اليوم توافدنا لإحياء الذكرى المئوية الأولى لظهور شعاع من مغارة المزار عند انتهاء الحرب العالميّة الأولى سنة 1918، كما روى الآباء والأجداد في شحتول العزيزة والمنطقة، ولانتاج الاحتفالات بعيدها.

2. يسعدني وسيادة أخوينا المطران أنطوان نبيل العنداري نائبنا البطريركي العام في نيابة جونيه من الأبرشية البطريركية، والمطران يوحنا-رفيق الورشا معاوننا ونائبنا البطريركي وابن هذه النيابة، أن نحتفل مع كاهن الرعية والمزار الخوري طوني بو عسّاف ومعكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونكرّم أمّنا مريم العذراء سيّدة القلعة، ونرفع لها آيات الطوبى للعظائم التي صنعها الله لها وفيها وبواسطتها، كما تنبّأت في النشيد الذي أطلقته في بيت اليصابات: “ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي العظائم” ( لو 1 : 48-49 ).

3. تعلمون أنّ العقار القائم عليه المزار ومحيطه تابع لوقف مار عبدا هرهريّا المشتركة ولايته بين البطريركية المارونية وعائلة آل آصاف الكرام. وقد اتّفقنا على تخصيص مساحاته للنّشاطات الرّوحية، وسننشئ لجنة تُعنى بالسّهر على المزار ومساحته، وتأمين الخدمة الروحية للزوار، وتوفير أمكنة صلاة ولقاءات تأمّل ورياضات روحية. هذه أرض مقدّسة كرَّستها سيدة القلعة بظهوراتها.

أودّ في المناسبة أن أحيّي آل آصاف الأحبّاء الساهرين على وقف مار عبدا هرهريّا، وعائلة آل الكلّاسي الأعزّاء على عنايتهم بإعداد هذا المكان المقدّس وتطويره وترميمه بسخاء أيديهم. كافأهم الله جميعًا بفيضٍ من نِعمه وبركاته. كما أحيّي موسيقى بلدة غزير الزاهرة، شاكرًا إيّاها على إضفاء طابع روحي على الإستقبال.

إنّا نقدّم هذه الذبيحة الإلهية لراحة نفوس الآباء والأجداد والأحبّاء الذين حافظوا على المزار وهذا المكان، كما نذكر الأحياء والمحسنين الذين يواصلون السهر عليه، والعناية به، وشهادة الإيمان.

4. لقد زرعنا أرزة، هي رمز السيّدة العذراء التي يُطبَّق عليها قول الحكمة الإلهية: “إرتفعَت كالأرز في لبنان” (سيراخ 24 : 13). والأرزة هي رمز وطننا لبنان، وتحتلّ الوسط في رايته. ذلك للدلالة أنّنا نكل إلى سيّدة القلعة وطننا، كيانًا وشعبًا وأرضًا.

وأضأنا شمعة هي علامة إيماننا المستنير بكلام الله، ونيّة صلاة من أجل السلام في لبنان وبلدان الشرق الأوسط والعالم.

5. “القدير صنع بي العظائم” (لو1 : 49). لقد أتينا جميعًا لنطوّب مريم الكليّة القداسة على العظائم التي صنعَها الله لها وبها وبواسطتها. أهمّ هذه العظائم أربع أعلنتها الكنيسة عقائد ايمانية.

الأولى، الحبل البريء من دنس الخطيئة الأصلية. عقيدة ايمانيّة أعلنَها البابا بيوس التاسع في ٨ كانون الاول ١٨٥٤ بالبراءة الرسولية “Ineffabilis Deus” الله الفائق الوصف: إنّ الكليّة الطوبى مريم العذراء قد عصمَها الله من دنس الخطيئة الأصليّة ، بنعمةٍ منه وامتياز، واستباقًا لاستحقاقات يسوع المسيح مخلّص الجنس البشري.

الثانية، انتصار مريم الكامل على الخطيئة الشخصية ونتائجها ، طوال حياتها الارضيّة. فبنعمة خاصّة من الله، لم ترتكب اي نوع خطيئة، حسب تعليم المجمع التريدنتيني (١٣ كانون الاول ١٥٤٥- ٤ كانون الاول ١٥٦٣، في الدورة ٦ القانون ٢٢٣ ((التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ٤١١).

الثالثة، امومتها الإلهيّة وبتوليّتها الدائمة: مريم أمّ الإله Theotokos عقيدة إيمانيّة أعلنها مجمع افسس (٤٣١). إنّ مريم هي أم الإله، لا بمعنى أن طبيعة الكلمة الإلهيّة والوهيّته أخذتا من مريم مبدأ وجودهما، بل بمعنى أنّ جسد ابن الله المكمّل بنفس مفكّرة قد انبثق منها، وبالتالي إنّ الكلمة الالهي، بفضل اتّحاده بالجسد في حشا مريم بشكل غير قابل للتفسير والفهم، قد ولد منها بالجسد البشري.

تُضاف إلى أمومتها الإلهيّة ديمومة بتوليّتها، التي أعلنها المجمع اللاتراني (1649). فولادة يسوع لم تنتقص من كمال بتوليّة أمّه، بل كرَّسَتها؛ هي العذراء التي صارت أمًّا بقوّة الروح القدس (راجع أشعيا 7 : 14 ؛ متى 1: 10).

الرابعة، مريم شريكة ابنها في الفداء: شاركته في آلامه وفي قبوله الآلام والموت فداء عن البشر. بقولها “أنا أمة الرب”، أعلنت تكريسها الكامل لخدمة ابنها الكلمة المتجسّد وانفتاحها الكلّي على شخص المسيح وكلّ عمله وكلّ رسالته. لذلك، ليست مريم أمّ يسوع ابن الإنسان وحسب، بل أصبحت شريكة المسيح الفادي السخيّة بنوع فريد على الإطلاق (الدستور العقائدي: في الكنيسة عدد 61) . في مسيرتها، مسيرة الإيمان. حتى الصليب، قدّمت مساهمتها كأمّ في رسالة المخلّص التي أتمَّها بأفعاله وآلامه وموته.

بفضل هذه المشاركة في آلام ابنها يسوع، أصبحت مريم أم البشرية الجديدة المتمثّلة بالكنيسة المولودة من سر موته وقيامته، على صورة حبّة الحنطة. وقد رمز إليها الماء والدم اللذين سالا من صدره المطعون بالحربة (يوحنا 19 : 34). وبشخص التلميذ الحبيب يوحنا الواقف معها على أقدام الصليب، أصبحت أم كلّ إنسان (راجع يوحنا 19 : 25-27). وهكذا كانت آلامها آلام مخاض المرأة التي تستعدّ لتلد (يوحنا 16 : 21)

6. إلى امّنا السماوية مريم العذراء، سيّدة القلعة نرفع قلوبنا وصلاتنا ملتمسين بشفاعتها من الله هبة الإيمان المستنير، من أجل بناء حضارة المحبّة والسلام. ومعًا ننشد آيات المجد والتسبيح والشكر للثالوث القدوس الذي اختار مريم أمًّا للإله المتجسّد ولجسده السريّ الذي هو الكنيسة، الآن وإلى الأبد. آمين.

*  *  *