عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في جنازة المرحوم الأباتي يوحنا تابت
عظات
“يوحنّا التلميذ الذي كان يسوع يحبّه” (يو 13: 23).
إخواني السادة المطارنة الأجلّاء،
قدس الرئيس العام وألاباء المدبّرين،
الرهبان والراهبات،
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء.
1. عزيزكم وعزيزنا الأباتي يوحنّا تابت، إبن الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة أسلم الروح في عيد شفيعه يوحنّا الحبيب، المعروف “بالتلميذ الذي كان يسوع يحبّه” (يو 13: 23)، وفي ذكرى مولد القدّيس شربل أخيه في الرهبانيّة. فالثامن من أيّار هو اليوم الأعزّ على قلبه. لقد أدرك أنّ المسيح الربّ أحبّه ودعاه للسير على خطاه في رحاب الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، فلبّى الدعوة وهو بعمر عشر سنوات. وقد اتّخذ اسم “يوحنّا” ومذ ذاك الحين “إرتمى على صدر يسوع كما فعل يوحنّا الحبيب (يوحنا 13: 25). وكان يفعل ذلك في كلّ مراحل حياته وظروفها.
2. أتى من بلدة عشقوت الغنيّة بالإيمان والصلاة، وبشخصيّاتها الكنسيّة من مصافّ البطاركة والأساقفة والرؤساء العامّين والكهنة والرهبان، إلى جانب علمانيّين مثقّفين وعلماء. تربّى على الإيمان والصلاة في بيت المرحومين ديب وهيلانة تابت، إلى جانب أربعة إخوة شدّته إليهم وإلى عائلاتهم علاقات المودّة الأخويّة. وقد سبقه إثنان منهم إلى دار الخلود.
3. كان مقتنعًا كل الاقتناع بدعوته الرهبانيّة وسعيدًا، فتربّى على روحانيّتها وتراثها الرهبانيّ حتى سيم كاهنًا سنة 1964 وهو في السابعة والعشرين من العمر. ونظرًا لشغفه بالليتورجيا، ذات الرابط بين ليتورجيا الأرض وليتورجيا السماء، أرسلته السلطة الرهبانيّة إلى روما حالًا بعد رسامته الكهنوتيّة للتخّصص العالي في الليتورجيا. فرجع بعد أربع سنوات إلى لبنان مزوّدًا بشهادة الدكتورا في الليتورجيا. لقد عرفناه في روميه راهبًا ملتزمًا، وباحثًا دؤوبًا وصبورًا، وصاحب نظرة واضحة نحو المستقبل. فأحببناه وقدّرنا صفاته، وظلّ هذا الحبّ وهذا التقدير مشتعلًا في قلبنا.
4. عندما رجع إلى لبنان سنة 1969 انكبّ على العمل في جامعة الروح القدس-الكسليك طيلة ثلاثًا وعشرين سنة: فأسّس معهد الليتورجيا وتولّى إدارته، ورئس دير الجامعة، ثمّ عُيّن رئيسًا للجامعة فنائبًا لرئيسها ومدير الدروس في كليّة اللاهوت الحبريّة، ثمّ عميدًا. نستطيع القول أنّه طبع هذه الجامعة بطابع خاصّ من الحياة الروحيّة والليتورجيّة والعلميّة، صانعًا الفرق. وكم كان سعيدًا بالعدد الكبير من الكهنة والرهبان والراهبات الذين تخرّجوا في عهده وعلى يده. فقد تولّى تدريس العلوم الليتورجيّة، ووجّه العديد من أطروحات الدكتورا لمدّة ثلاث وأربعين سنة، وأغنى التراث الليتورجيّ في سبعين كتابًا وما يفوق المئة من المقالات بالعربيّة والفرنسيّة. وتوّجها بترجمة “بيت غازو” بثماني وعشرين جزءًا، وهي مصادر أقدم مخطوط للشحيمة المارونيّة العائد إلى سنة 1435، وأوّل شحيمة مطبوعة سنة 1624.
5. إنطلاقًا من هذا الإستحقاق انتُخب مدبّرًا عامًّا ثمّ رئيسًا عامًّا للرهبانيّة. فتميّز بإدارة حكيمة ورشيدة، مع تعزيز الحياة الروحيّة والليتورجيّة معًا، عملًا بمبدأ “شريعة الإيمان، شريعة الصلاة”. وعندما أنهى خدمته في الإدارة العامّة عاد فعاش حياة رهبانيّة متواضعة ومتجرّدة، خاضعًا لتدابير السلطة الرهبانيّة. فعُيّن رئيسًا لكلّ من دير سيّدة طميش ودير القدّيسين بطرس وبولس في العذرا، ثمّ راهبًا عاديًّا في هذا الدير.
6. بالإضافة إلى كلّ ذلك، تميّز الأباتي يوحنّا بكونه رائد نهضة التجديد الليتورجيّ في كنيستنا المارونيّة، مع فريق العمل في معهد الليتورجيا. فخرجت من هذا المعهد الإصلاحات الليتورجيّة وأخصّها كتاب الفرض الإلهيّ، الشحيمة، لكلّ الأزمنة الليتورجيّة، ومتعيّدات القدّيسين. وتولّى مهمّة أمين سرّ ومنسّق للجنة الليتورجيّة البطريركيّة، وعُيّن مستشارًا للشؤون الطقسيّة في مجمع الكنائس الشرقيّة بالفاتيكان، وعضوًا في لجنة إعداد السينودس من أجل لبنان.
فتقديرًا لهذه الإستحقاقات منحته الحكومة الفرنسيّة وسام شرف، ونحن وسام مار مارون، وقلّدناه إيّاه يوم زرناه في مستشفى سيّدة المعونات، جبيل، وكانت قد تراجعت حالته الصحيّة، وتفاقم هذا التراجع، “فارتمى على صدر يسوع” الحنون الرحوم، كعادته في مختلف حالاته وظروفه، حتّى اسلم الروح بسلام مع الله والذات.
7. بغياب الأباتي يوحنّا تابت، منطلقًا بابتهاج إلى بيت الآب، تنطوي صفحةً مجيدة من تاريخ جامعة الروح القدس والرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة. يغيب عن الأنظار لكنّ إرثه الليتورجيّ الذي تركه يخلّده، والتيار الروحي الذي أنعش به حياة الجامعة والرهبانيّة يحي ذكراه.
بكلّ ذلك تتعزّى الرهبانيّة، وجامعة الروح القدس، ويتعزّى شقيقاه وعائلتاهما، بل أهالي عشقوت العزيزة. تقبّل الله “الغنيّ بالرحمة” (أفسس 2: 4) روحه في مجد السماء لينعم بالمشاهدة السعيدة، فيكون للجميع خير شفيع لدى العرش الإلهيّ، وعوّض الله على الرهبانيّة الجليلة برهبان قدّيسين “وفق قلب الله” (إرميا 3: 15).
المسيح قام!
* * *