عظة البطريرك الرَّاعي في أحد الكهنة


عظاتأحد تذكار الكهنة

“من تراه الوكيل الأمين الحكيم” ( لو 12: 42)

1.الأسابيع الثلاثة التي تسبق زمن الصوم الكبير تُسمّى أسابيع التذكارات. فتبدأ في هذا الأحد بتذكار الأحبار والكهنة المتوفَّين، وفي الأحد المقبل بتذكار الأبرار والصدّيقين، وفي الثالث الموتى المؤمنين. نصلّي في تذكار الكهنة من أجل راحة نفوس المتوفين، ومن أجل الكهنة الأحياء والدعوات الكهنوتيّة.

تتلو الكنيسة هذا النص من الإنجيل في تذكار الأحبار والكهنة، لأنّه يرمز إلى مسؤوليّتهم كرعاة في الكنيسة. وقد أقامهم المسيح الكاهن الأزليّ برسامتهم الكهنوتيّة “وكلاء أسرار الله” على ما يقول بولس الرسول (1كور 4: 1). وهي إعلان كلمة الإنجيل، وتوزيع نعمة التقديس، وخدمة محبّة المسيح. إنّ واجبهم الكهنوتيّ ليس رهن إرادتهم ومزاجهم وخاطرهم، لأنّه بمثابة وكالة. فيطلب من الوكيل أن يكون أمينًا وحكيمًا ( لو 12: 42).

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة في تذكار الاحبار والكهنة، ومعهم نذكر أعزّاء علينا ودّعناهم مع عائلاتهم. وهم نسيبنا وعزيزنا المأسوف على شبابه المرحوم ربيع يوسف الراعي، الذي ودّعناه في 8 كانون الثاني المنصرم، في حملايا مع زوجته وابنتيه ووالديه وأفراد العائلة وأهالي بلدتنا الذين أحبّوه؛ وعزيزنا المرحوم روفايل نعّوم نصّار والد الوزير المهندس وليد نصّار، وزير السياحة، وقد ودّعناه في جبيل مع زوجته، وابنيه وابنتيه وأفراد العائلة والأنسباء والأصدقاءفي 28 كانون الأوّل الماضي. وعزيزنا المرحوم فيليب حنّا الحاج الذي ودّعناه في بلدة رميش مع زوجته وابنيه وابنتيه والأنسباء في 21 كانون الأوّل الماضي. وهو ناشط اجتماعيّ ومفكّر وباحث، وملتزم في حزب القوّات اللبنانيّة، وفي توجيهات البطريركيّة الوطنيّة، مع مجموعة “بكركي 2020″، لراحة نفوس هؤلاء الأعزّاء الثلاثة نقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة، ولعزاء عائلاتهم.

3 الأمانة والحكمة فضيلتان ينبغي أن يتحلّى بهما الكاهن. فالأمانة هي أمانة للحالة الكهنوتيّة وفضائلها وروحانيّتها ومسلكها؛ وأمانة للموكّل، المسيح الربّ الذي دعاه لصداقته وواجب تتميم إرادته وتلبية دعوته؛ وأمانة للجماعة الموكولة إلى عنايته، ليقدّم لها الطعام المؤتمن عليه، وهو كلمة الله، ونعمة الأسرار، وخبز جسد الربّ ودمه، وعطيّة الروح القدس.

والحكمة هي حسن التصرّف في أداء واجب الوكالة، بحيث لا يلحقه لوم من سيّده أو من الجماعة الموكولة إليه. الحكمة هي أولى مواهب الروح القدس السبع التي ذروتها مخافة الله: “رأس الحكمة مخافة الله”(سيراخ 1: 16): ما يعني أنّ موهبة الحكمة هي التصرّف الدائم بهدف مرضاة الله، والانتباه الكامل لتجنّب الإساءة إليه.

4. الأمانة والحكمة فضيلتان أساسيّتان في حياة الزوجين والوالدين. أمانتهما هي لعهدهما مع الربّ، وبينهما، وإسعاد الواحد الآخر، وإنجاب الأولاد وتربيتهم وإعالتهم. والحكمة هي مرضاة الله، والثبات في الأمانة عبر الأفعال والتصرّفات والمبادرات، ولو كثرت مصاعب الحياة الزوجيّة والعائليّة، أكانت من الداخل أم من الخارج.

5. الأمانة والحكمة فضيلتان أساسيّتان أيضًا في حياة كلّ مسؤول سياسيّ يتعاطى الشأن العام. فالأمانة هي الولاء للدولة وحماية الدستور والميثاق الوطنيّ، والإلتزام بتأمين الخير العام، الذي منه خير كلّ مواطن وخير جميع المواطنين. والحكمة هي في المحافظة على الهدوء والإستقرار الداخليّ في البلاد والنموّ الإقتصاديّ بكلّ قطاعاته، والتنمية البشريّة والإجتماعيّة، وإحياء أوسع شبكة تعاون مع الدول لخير البلاد، وتعزيز سيادة الدولة في الداخل وفرض احترامها وهيبتها، واحترام سيادة الدول الأخرى.

6. في ضوء هاتين الفضيلتين، الأمانة والحكمة، لا يمكن القبول بممارسات عندنا تطيح بالمؤسّسات الدستوريّة.

أ- فمن غير المقبول الإطاحة باستقلاليّة القضاء وهيبته وكرامته. فبعض القضاة يفقدون استقلاليّتَهم ويَخضَعون للسلطةِ السياسيّةِ ويُنفّذون توجيهاتِها من دون تقديرِ خطرِ هذه الممارساتِ على مصلحةِ لبنان العليا. فلا بُدَّ من رفعِ الصوت بوجْهِ السلطةِ السياسيّةِ لترفعَ يدَها عن القضاء، وتحترم فصل السلطات، وبوجْهِ بعضِ القضاةِ الّذين يُسيئون إلى رسالةِ القضاء واستقلاليّتِه بتلوينه السياسيّ والطائفيّ والمذهبيّ، وبجعله غبّ الطلب، ما يوقع القاضي في حالة الشبهة.

ب -إنّا نُهيب بالمرجعيّاتِ القضائيّةِ العليا بأن تَخرُجَ عن تردُّدِها وتَضعَ حدًّا لــــ “الجزُرِ القضائيّةِ” داخلَ القضاء. نحن نطالبُ بمحاكمةِ جميعِ الفاسدين الذين بدّدوا المال العام وأوصلوا البلاد إلى الإنهيار السياسيّ والإقتصاديّ والماليّ، لا أن تَنتقيَ السلطةُ شخصًا واحدًا من كلِّ الجُمهوريّةِ وتُلقيَ عليه تبعاتِ كلِّ الأزْمةِ اللبنانيّة وفشلِ السنوات الثلاثين الأخيرة. هذا أفضلُ أسلوبٍ للتغطيةِ على الفاسدين الحقيقيّين وتهريبِهم من وجهِ العدالة، وأقصر طريق لضرب ما بقي من النظام المصرفيّ اللبنانيّ، وتعريض بعض المصارف للإفلاس، وضياع أموال المودعين. ينبغي التنبّه إلى مخطّط يستهدف استكمال الإنهيار.

ج- ومن غير المقبول التلاعب بالموعد المحدّد لإجراء الإنتخابات النيابيّة في 15 أيّار المقبل، وهي ضمانة للإنتخابات الرئاسيّة في تشرين الآتي. إنّنا نشجب كلّ محاولة لإرجاء الإنتخابات باختلاق أسباب غير دستوريّة أو سواها تولّد عدم الثقة في نفوس اللبنانيّين، ويتساءلون :” في انتخابات؟!”، فيما موعد إجرائها على مسافة شهرين. فليتذكّر النواب أنّهم موكّلون من الشعب اللبنانيّ الذي وكّلهم فلا يحقّ لهم تجديد وكالتهم بمعزل عن الشعب (راجع الدستور: المقدّمة، د؛ والمادة 27).

7. فيا أيّها المسؤولون السياسيّون: أوْقِفوا اختلاقَ الأخبارِ والإشاعاتِ والإساءات! البلاد بحاجة إلى هدوء واستقرار نفسيّ. أوْقفوا الانتقاماتِ والأحقادَ والكيديّة! أوْقفوا ضربَ مؤسّساتٍ معيّنةٍ الواحدةِ تلو الأخرى في إطارِ مخطّطٍ انقلابيٍّ يَستهدف أصلًا إسقاطَ الدستورِ والميثاقيّةِ والأعرافِ في مؤسّساتِ الدولة! أوْقفوا الإضرارَ بسُمعةِ لبنان والنقدِ اللبنانيِّ والمصرفِ المركزيِّ والجيشِ والقضاءِ، وهي ثلاثيّة الاستقرارِ والأمنِ والعدالة! ليس كذلك يتمّ التفاوض مع صندوقِ النقدِ الدوليِّ والدولِ المانحة، وليس كذلك تُعيدون أموالَ المودعين إلى أصحابها، وهي أصلًا ديون على الدولة يتوجب عليها إيفاؤها، وهي أولويّةَ الأولويّات ولا حل من دون إيفائها. فإذا ضبطت الدولة مداخيل الجمارك في المطار والمرافئ والحدود، وإذا استثمرت ممتلكاتها، استطاعت إيفاء ما عليها من ديون، فتعود للمواطنين ودائعهم.

8. وإذ نقرّ بأنّه حقّ جوهريّ وديمقراطيٌّ أن تُطالبَ الفئات النقابيّة والاجتماعيّة والمهنيّة بحقوقِها وأموالِها، وأن تَحتجَّ وتتظاهرَ وتَتجَمّع، لكن لا يَحِقُّ لأحدٍ أن يقطعَ الطرقاتِ الرئيسيّةَ أمام المواطنين فيأخذهم رهينة؛ ويَقطعَ بأرزاقِهم، ويُعطِّلَ الحياةَ العامّةَ، ويَمنعَ الطلّابَ من التوجّهِ إلى المدارسِ، والموظفين إلى مؤسّساتِهم، والمرضى إلى المستشفيات، والمسافرين إلى المطار، ويَشُل الحركةَ التجاريّةَ والاقتصاديّة. ألا يكفي الناس تشردًّا وعذابًا وشقاءً وجوعًا وفَقرًا وأمراضًا وأوبئةً وقِلّةَ مواردَ وشَحَّ محروقات؟

9. إلى العناية الإلهيّة نكل حالتنا وحالة وطننا، وكلّنا رجاء بأنّ الله يريد أن نعيش في الطمأنينة والسلام. له المجد والتسبيح، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

*    *    *

 

media.bkerki.org

Photo Album: Sunday Mass_Bkerki_6.2.2022