عظة البطريرك الرَّاعي في البيان ليوسف – بكركي
عظاتأحد البيان ليوسف
“تراءى له ملاك الربّ في الحلم” (متى 1: 20)
1. تراءى ليوسف ملاك الربّ في الحلم، وكشف له سرّ حبل مريم، بحيث أنّ المولود فيها هو من الروح القدس، وكشف له دعوته بأن يكون زوجًا شرعيًّا بتولًا لمريم البتول، وأبًا بالتبنّي للمولود الإلهيّ. وبات على يوسف أن يحمل المسؤوليّة تجاه الكنزين: مريم الكليّة القداسة، ويسوع الطفل الإله.
بالبشارة لزكريّا، كانت البشرى بمولود هو يوحنّا، وبالبشارة لمريم كانت البشرى بميلاد إبن الله منها وهي عذراء، واليوم بالبيان ليوسف كانت البشرى عن مكانه ودوره في هذا التصميم الإلهيّ الخلاصيّ. إنّ الله يتعاون مع كلّ إنسان مؤمن لكي يحقّق تصميمه عبر تاريخ البشر بمحطّات هو يحدّدها.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، راجين أن نصغي لما يقوله الله لكلّ واحد وواحدة منّا في مسيرتنا نحو ميلاد إبنه الأزليّ إنسانًا في الزمن. وإذ أحييكم جميعًا أوجّه تحيّةً خاصّة إلى الهيئة الكاثوليكيّة للتعليم المسيحيّ في الشرق الأوسط، بشخص رئيسها الأب كلود ندره والأعضاء، وجميع العاملين في رسالة التعليم المسيحيّ في لبنان وبلدان الشرق الأوسط. واليوم 12 كانون الأوّل مخصّص للإحتفال بيوم التعليم المسيحيّ في هذه البلدان، لتزامنه مع أحد البيان ليوسف “مثال معلّم التعليم المسيحيّ وقدوته”. سنتلو في آخر القدّاس الصلاة المخصّصة لهذا اليوم.
3. وأحيّي بيننا “رابطة Crossroad-درب الصليب” التي تتألّف بمعظمها من مصابي الحرب ونتائجها، وتهدف إلى مساعدة المعوّقين في مختلف حاجاتهم بشكلٍ يحفظ كرامتهم. وتستمدّ قوّتها من الشعور بالتحدّي للتغلّب على الإعاقة والعجز، ومن شعور المشاركة في آلام الآخرين باعتبارهم واحدًا معهم في الجرح والألم.
وأحيّي أيضًا وفد أهالي الموقوفين وأهالي الشهداء الذين سقطوا في إنفجار مرفأ بيروت. كلّهم يطالبون بسير المحاكمة والحدّ من عرقلتها واتّباع أصولها القانونيّة بعيدًا عن تسييسها وتطويفها. ويطالب أهالي الموقوفين من دون محاكمة منذ سنة وأربعة أشهر بالإحتفال معهم بعيد الميلاد.
كما أوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة عزيزنا المرحوم المهندس الشيخ جوزف الياس الجميّل الذي ودّعناه في بلدته عين الخرّوبة العزيزة مع ابنه وابنتيه وأحفاده وأشقّائه وشقيقاته وعائلاتهم، منذ ثلاثة وعشرين يومًا. فإنّا نصلّي لراحة نفسه ونفس المرحومة زوجته سلوى الحاج بطرس، ولعزاء أسرته.
4. كشف الله سرّه المكتوم منذ الدهور ليوسف عندما وقع في الحيرة والقلق بشأن حبل مريم الإلهيّ، ودعوتها السامية لتكون أمّ “إبن العليّ القدّوس”، معتبرًا نفسه خارج هذا التدبير الإلهيّ. ففكّر بتخليتها سرًّا، تجنّبًا للمرور بالقضاء، واحترامًا لكرامة مريم وقدسيّة ما يجري فيها من تدبيرٍ إلهيّ.
في الليلة الأخيرة من مرحلة القلق والتساؤل والحيرة، وقد قضاها يوسف من دون أيّ شكّ في الصلاة وإستلهام إرادة الله، حضر الربّ وخاطبه عبر ملاكه في الحلم، وكشف له السرّ الخفيّ. فصدّق يوسف وآمن ونفّذ.
أمثولتان اثنتان نتعلّم من هذا الحدث: الأولى، أنّ الله يواكب خطوات كلّ إنسان لحظةً بلحظة، لأنّه معاونه في صنع تاريخ البشر المدعو ليتماهى مع تاريخ الخلاص. عند ساعات القلق والحيرة والاضطراب، نتعلّم من يوسف أن نعود إلى الله لنصغي في جوّ من الصلاة والاستلهام والتسليم لما يلهمنا عليه في أعماق ضمائرنا.
والأمثولة الثانية أن نعمل بما يوحيه الله لنا، على مثال يوسف الذي “صنع كما أمره ملاك الربّ” (متى 1: 24). في كلّ مرّة نصنع إرادة الله، المتجلّية لنا مباشرةً أو بواسطة رؤسائنا، نكون في خطّ تدبير الله ومشروعه، ولو بدا ذلك مخالفًا لمنطقنا الشخصيّ ولمصلحتنا. يقول القدّيس البابا يوحنّا الثالث والعشرون: “الله يكتب بخطّ مستقيم على أسطر ملتوية”. ما أجمل أن نعمل وفقًا لما نصلّي: “لتكن مشيئتك”!
5. إنّنا برجاء وطيد نصلّي لكي يصغي إلى إلهامات الله المسؤولون، وبخاصّة الذين يستعملون نفوذهم السياسيّ لعرقلة اجتماع مجلس الوزراء، وسير التحقيق العدليّ في كارثة انفجار المرفأ، ولكي تستعيد الدولة مسيرتها الطبيعيّة بمؤسّساتها الدستوريّة.
لا يمكن أن تسير البلاد من دون سلطة إجرائيّة تقرّر وتصلح وتجري الإصلاحات وتنفّذ القرارات الدوليّة، وتراقب عمل الوزراء، وتمارس كامل صلاحيّاتها الدستوريّة. ولا يمكن القبول بحكومة تعطّل نفسها بنفسها. هل في نيّة المعطّلين اختبار تجريبيّ لما ستكون عليه ردود الفعل في حال قرّروا لاحقًا تعطيل الإنتخابات النيابيّة فالرئاسيّة؟ وكيف يستقيم حكم من دون قضاء مستقلّ عن السياسة والطائفيّة والمذهبيّة، علمًا أنّ “العدالة أساس الملك”؟. إنّنا نرفض رفضًا قاطعًا تعطيل إنعقاد مجلس الوزراء خلافًا للدستور، بقوّة النفوذ ونيّة التعطيل السافر، لأهداف غير وطنيّة ومشبوهة، وضدّ مصلحة الدولة والشعب.
6. وما يزيد من قلق اللبنانيّن أنّ الدولة تحاولُ التضحيةَ بودائعِهم لمصلحتِها ومصلحةِ المصارف. وفي هذا الإطار، نُحذّر المشرِّعين من مَغبّةِ وضعِ صيغةٍ للكابِيتال كونترول تُودي بما بقي للناس من أموالٍ تحت ستارِ توزيع الخسائر. فهل ذَنبُ المواطنين أنّهم وضعوا أموالَهم في المصارفِ لكي تجعلوهم شركاءَ في الخسائر؟ لقد أذلّيتم الشعبَ كفايةً، وسَرقتم جَنى عمِره كفايةً، وأفْقرتمُوه كفاية. فارحَموه لكي يرحَمَكم الله. تفعلون ذلك والشعب لا يملك القدرة للذهاب إلى طبيب. وإذا استطاع ووصف له دواء فلا يجده لا في الصيدليّات ولا في المستوصفات ولا في المستشفيات ولا حتى في وزارة الصحة. تَتبخّرُ أدويةُ الأمراضِ المزمنةِ والمستعصِيةِ قبل أن تَصل إلى المرضى، فيموت الناسُ في بيوتِهم وعلى الطرقاتِ وأمام أبوابِ المستشفيات والوزارات. هذه حالة كارثيّةٌ لم يَعرِفْها لبنان في تاريخه.
7. وما يزيد من قلق اللبنانيّن ايضًا القرار رقم 96/1، تاريخ 25 تشرين الثاني 2021 الذي أصدره وزير العمل السيد مصطفى بيرم، وأثار موجة عارمة من الإحتجاج أدلى بها رجال قانون ودستوريّون. فاعتبروا عن وجه حقّ:
1-أنّ القرار يسير في اتجاه معاكس لما ورد في مقدمة الدستور حول رفض التوطين.
٢-أنّه لا يراعي مبدأ المعاملة بالمثل .
٣-لا يأخذ بالاعتبار مبدأ الافضلية في تأمين العمل للبنانيين في هذه الظروف العسيرة.
٤- لا ينسجم مع بعض قوانين المهن الحرة( محاماة، طب، هندسة…) التي تفرض شروطاًخاصة للسماح للاجنبي بممارستها.
5- أنّه يفتح باب العمل امام الذين استثناهم في الادارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات.
وبنتيجة كلّ ذلك، بما أنّ قرار وزير العمل يتعارض مع مجموعة قوانين وبخاصة القوانين التي تنظم المهن الحرة، يعتبر رجال القانون وجوب تقديم دعوى امام مجلس شورى الدولة وطلب ابطال هذا القرار.
ونحن بقدر ما نحترم الذات الإنسانيّة ونشعر مع النازحين واللاجئين، نلفِتُ النظرَ إلى أنَّ مسؤوليّةَ الاعتناء بهؤلاءِ الإخوة تعود إلى الأممِ المتّحدةِ من خلال منظمة “الأونروا” للفِلسطينيّين، وإلى المفوضيّةِ العليا لشؤونِ النازحين السوريين. إنَّ لبنانَ عاجزٌ عن تلبيةِ حقوقِ نحو مليونَي لاجئٍ ونازح، ونطالب لهم، احترامًا لكرامتِهم، بحياةٍ طبيعيّة، وبأن يجدَ العربُ والعالمُ حلًا نهائيًّا للقضيّة الفلسطينيّة خارجَ لبنان، وللنازحين السوريّين بإعادتهم سريعًا إلى بلادهم.
8. تابعنا بفرحٍ وتقديرٍ تدشينَ كاتدرائيّةِ “سيدة العرب” في المنامة، عاصمةِ مملكةِ البحرين الشقيقة. هذا الحدثُ السعيد يَدّل على تقدّمِ الحوار بين الأديان، وخصوصًا بين المسيحيّةِ والإسلام، ويُبرزُ نهجَ الانفتاحِ الذي يَسلُكه ملكُ البحرين في إطارِ الانفتاحِ الخليجيّ عمومًا. وحبّذا لو أنَّ اللبنانيّين الّذين أُنشئ وطنُهم نموذجًا لتعايشِ الأديان أنْ يُحييوا هذه الرسالةَ العظيمة عوض طعنِها كلَّ يوم. ففيما تولدُ الصيغةُ اللبنانيّةُ في العالم لا يجوز أن تسقطَ في أرضها الأم، لبنان.
9. يا ربّ، ساعد كلّ واحد وواحدة من البشر أن يصغوا إلى صوتك وإلهاماتك، لكي يصححوا حياتهم وطريقة عيشهم ونظرتهم إلى الحياة، فيتمّوا إرادتك الخلاصيّة، ويبنوا تاريخًا بشريًّا أكثر إنسانيّة، لمجدك، أيّها الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *