عظة البطريرك الرَّاعي في زيارة العذراء لأليصابات – اليوبيل الذهبي لجمعيّة كشّافة الإستقلال


عظاتأحد زيارة العذراء لإليصابات

 

 

“طوبى لتلك التي آمنت أنّه سيتمّ ما قيل لها من قبل الربّ” (لو 1: 45)

 

1. فيما نحتفل ليتورجيًّا بزيارة مريم لأليصابات، نحتفل أيضًا مع جمعيّة كشافة الإستقلال بيوبيلها الذهبي، فقد تأسّست ليلة عيد الإستقلال في 21 تشرين الثاني 1971 في المعهد الأنطوني-بعبدا، ببركة الرهبانية الأنطونيّة المارونيّة.

فيسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة. فنلتمس هبة الإيمان الذي تميّزت به سيّدتنا مريم العذراء، إذ قبلت كلام الله على لسان الملاك بطاعة كاملة، وجسّدته أفعال خدمة لنسيبتها أليصابات الحامل والتي حيّتها “طوبى لتلك التي آمنت أنّه سيتمّ ما قيل لها من قبل الربّ” (لو 1: 45). ونهنّئ جمعيّة كشّافة الإستقلال بيوبيلها الذهبيّ، ومعها نشكر الله على الخمسين سنة التي ملأها بنعمه الغزيرة والمتنوّعة، بفضل التوجيه الروحيّ من آباء وراهبات الرهبانيّة الأنطونيّة الجليلة. ويسعدني أن أحيّي راعي هذه الجمعيّة ورئيسها الفخريّ قدس الرئيس العام الأباتي مارون أبو جوده ممثلا بحضرة النائب العام الأب مارون بو رحال، كما أحيي مرشدها العام الأب إيلي الدكاش.

2. كانت الغاية من تأسيس الجمعية نشر مبادىء الحركة الكشفية، وإيصالها الى أوسع شريحة ممكنة من الشابات والشبان بهدف خلق المواطن الصالح المبدع والخلوق والمخلص لكنيسته ومجتمعه. فانطلقت بخطى ثابتة وانتشرت أفواجها داخل المدارس والمؤسسات الأنطونية (رهبانا وراهبات) وفي الرعايا المارونية التي يخدمها الرهبان الأنطونيون. وتأثرت بهزتين كبيرتين: إنفجار مقرها العام في دير مار جرجس في عوكر ، والأضرار الجسيمة في الأوراق الرسمية وأرشيفها ومقتنياتها. واختطاف مرشدها العام الأب ألبير شرفان، ومرشد مفوضية الشمال الأب سليمان بو خليل ، على إثر أحداث ١٣ تشرين الأول ١٩٩٠، ولم يعرف أي شيء عن مصيرهما حتى اليوم، لكنهما دائمًا في صلاتنا وفي صلاة كل من عرفهما.

3. لملمت الجمعية جراحها وانطلقت من جديد، مستمدّة القوة من الله، والعزيمة على الاستمرار من قادتها. وبدأت تحقيق الأهداف الواحد تلو الآخر ، فانتسبت إلى اتحاد كشاف لبنان سنة ١٩٩٣، وتولّى اثنان من قادتها مركز المفوض العام في عاميّ ٢٠٠٥ و ٢٠١٥. وهي حاليا عضو في الهيئة الإدارية للمفوضية العامة. وبدأت مشاركاتها في المخيمات والمؤتمرات الكشفية العالمية منذ سنة ١٩٩٥.

في نيسان ٢٠١٧ دشنت مقرها العام الجديد على قطعة أرض ممنوحة من الرهبانية الأنطونية مشكورة  قرب دير الرئاسة العامة في مار روكز. فتمكّنت الجمعية من استضافة العديد من الشخصيات الكشفية العالمية والعربية والمحلية، ودراسات تدريبية خاصة باتحاد كشاف لبنان وغيره من الجمعيات الكشفية، مع التحديث الدائم لمناهجها الكشفية ومسارها التدريبي وفقًا للسياسات التربوية للمنظمة الكشفية العالمية. وها هي تحمل اسم استقلال وطننا الحبيب وتجعل منه عهدًا عليها.

4. إنّ إنجيل زيارة مريم لإليصابات هو إنجيل الإيمان والروح القدس: فمريم بإيمانها قالت “نعم” لبشارة الملاك معلنةً نفسها “خادمة للربّ”، ومكرّسة كلّ ذاتها لخدمة التصميم الإلهيّ. وجسّدت هذا الإيمان في خدمة نسيبتها أليصابات طيلة ثلاثة أشهر حتى مولد يوحنا. وبنتيجة الزيارة الإيمانيّة، ويسوع جنين في حشاها، حلّ الروح القدس على الجنين يوحنّا بعلامة تحرّكه ابتهاجًا في بطن أليصابات، فتمّت نبوءة الملاك لزكريا أبيه: “ويمتلئ من الروح القدس وهو بعد في حشا أمّه” (لو 1: 15). كما حلّ على أليصابات أمّه فتنبّأت: أنّ مريم مباركة بين النساء، وأنّ الجنين الذي في حشاها هو الربّ. فحيث يسوع، هناك الروح القدس.

نحن نؤمن عندما نلتقي الله كشخص، ونخاطبه بكلمة “أنت”، ونلجأ إليه مثل طفل يعرف تمامًا أنّ كلّ صعوباته ومشاكله تتبدّد بحضور أمّه، ويدعوها “أنت”.

الإيمان المسيحيّ هو تسليم الذات لله مع الشعور واليقين بأنّه يسندنا ويعضدنا. وهو يقين يُحرّرنا ويحملنا على إعلان الانجيل بالكلمة وشهادة الحياة، ولو وجدنا من الغير الرفض وعدم الإكتراث أو حتى الهزء.

5. يتّضح لنا من لقاء الأميّن والجنينين أنّ الجنين في بطن الأمّ كائن بشريّ كامل الحقوق وأوّلها الحياة. الجنين في بطن مريم منذ اللحظة الأولى هو يسوع المسيح العتيد أن يولد، وكذلك الجنين في بطن إليصابات منذ ستّة أشهر هو يوحنّا المعمدان الذي سيولد. هذا يعني أنّ كلّ كائن بشريّ يتكوّن في حشا أمّ هو منذ اللحظة الأولى للحبل به، معروف ومحبوب ومُراد من الله، وله مكانه ودوره في تاريخ الخلاص. لذا فإن الاعتداء على الجنين هو تمامًا كالإعتداء على أيّ شخص وعلى الله سيّد الحياة والموت وحده. وبالتالي الإجهاض وإتلاف الأجنّة جريمة قتل.

6. عالمنا عامّة ومجتمعنا اللبنانيّ خاصّة بحاجة إلى إيمان أصيل ملتزم يختلف تمامًا عن مجرّد أيّ إنتماء دينيّ أو طائفيّ أو مذهبيّ، وإلى انفتاح العقل والقلب والضمير لإلهامات الروح القدس. نحن من دون الإيمان وعمل الروح القدس نبقى في عتيقنا وتحجّرنا وحقدنا وإدانة غيرنا مجّانًا. فلي هذا الضوء ثلاث كلمات:

أ. الكلمة الأولى تختصّ بالانتخابات النيابيّة في الربيع المقبل لا كاستحقاقٍ دستوريٍّ دوريٍ فقط، إنما كمَحطّةٍ لتجديدِ الحياةِ الوطنيّةِ عبرَ الديمقراطيّةِ والإرادةِ الشعبيّة، وكمُنطلقٍ لولادةِ أكثريّةٍ وطنيّةٍ مسؤولةٍ ومؤهَّلةِ لإنعاش كيانِ لبنان وهُويّتِه ودورِه وخصوصيّتِه، ولحماية مصيره المهدد. لقد حان الوقتُ لانتظامِ الحياةِ البرلمانيّةِ، فتَتنافَسُ القِوى السياسيّةُ تحت سقفِ الدستورِ، من أجل التغيير إلى الأحسن والأفضل.

لذا، نحذر من أيِّ محاولةٍ لإرجاءِ الانتخاباتِ تحتَ ذرائعَ غير منطقيّةٍ وغيرِ وطنيّة، ونُصِرُّ على حصولِـها في مواعيدِها الدستوريّة، حِرصًا على حقِّ الشعبِ في الانتخابِ والتغيير، وحفاظًا على سلامةِ لبنان ووِحدته.

ب. الكلمة الثانية تختصّ بقرار الهيئة العامّة بالإجماعِ لمحكمةِ التمييزِ الذي ثبّت أحَقيّةِ التحقيقِ العدليّ، فأعاد للقضاءِ اللبنانيِّ جِدّيتَه وهيبتَه ووحدتَه، وأحيا الأملَ باستكمالِ التحقيق في جريمةِ المرفأ بعيدًا عن التسييسِ والتطييفِ والمصالح. إن مصلحةَ جميعِ المعنيّين، بشكلٍ أو بآخَر بتفجير مرفأِ بيروت، تقضي بأن يَستمرَّ التحقيقُ وتَنجليَ الحقيقةُ، فلا تبقى الشكوكُ الشاملةُ والاتّهاماتُ المبدئيّةُ تحومُ فوقَ رؤوسِ الجميع أكانوا مسؤولين أم أبرياء. وحدَه القضاءُ الحرُّ والجريءُ والنزيهُ يُزيل الشكوكَ فيُبرّئ البريءَ ويُدينُ المسَبِّبَ والمرتكِبَ والمتواطئَ والمهمِل.

وفي هذا السياق، حريُّ بالجميعِ، مسؤولين وسياسيّين وإعلاميّين، أن يحترموا السلطةَ القضائيّةَ ويَكُفّوا عن الإساءةِ المتعمَّدَةِ إليها في إطارِ ضربِ جميع ركائزِ النظامِ اللبنانيِّ، الواحد تلو الآخر.

ج. الكلمة الثالثة تختصّ بانعقاد مجلس الوزراء، نتساءل: بأيّ حقّ يُمنع مجلس الوزراء من الإنعقاد؟ هل ينتظر المعطّلون مزيدًا من الإنهيار؟ مزيدًا من سقوط الليرة اللبنانية؟ مزيدًا من الجوعِ والفَقر؟ مزيدًا من هِجرةِ الشبابِ والعائلات وقوانا الحيّة؟ مزيدًا من تدهورِ علاقاتِ لبنان مع دولِ الخليج؟ لا يجوز لمجلس الوزراء أن يبقى مغيَّبًا ورهينةَ هذا أو ذاك، فيما هو أساسًا السلطةُ المعنيّةُ بإنقاذِ لبنان. وكيف يقوم بواجب مستحقّات المؤسسات الإنسانيّة والإجتماعيّة وزيادة سعر الكلفة، وعدد هذه المؤسسات 400، وفيها 25000 موظّفًا، و 50000 مستفيدًا؟ هذه المؤسسات تقوم بعملٍ هو في الاساس من مسؤوليّة الدولة والسلطة فيها.

7. إنّنا نصلّي مع قداسة البابا فرنسيس من أجل لبنان كي يستعيد قاعدته الأساسيّة التي بُني عليها، وهي “الإنتماء إلى دولة لبنان بالمواطنة لا بالدين”. فتتحقّق أمنية قداسته “بأن يتخطّى اللبنانيّون الإنتماءات الطائفيّة، للسير معًا نحو شعور وطنيّ مشترك”.

ونرفع نشيد المجد والشكر لله، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

*    *    *

media.bkerki.org

Photo Album: Sunday Mass_bkerki_28.11.2021