كلمة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في اليوبيل المئوي الثاني لدير مار ضومط للراهبات الأنطونيات في روميه
نشاط البطريرك
1. يسعدني أن أشارك في هذا الاحتفال باليوبيل المئوي الثاني (1818-2018) لدير مار ضومط للراهبات الأنطونيّات هنا في روميه العزيزة. فأهنِّئ الجمعيّة بشخص رئيستها العامّة الأم جوديت هارون ومجلس المدبّرات، وأشكر رئيسة الدير والمدبّرة العامّة الأخت باسمه خوري على الدعوة لرعاية هذا الاحتفال. وأهنّئها باليوبيل مع جمهور راهبات الدير والثانوية، بل مع جميع الراهبات الأنطونيات. وهو ديرهنّ الأمّ فمنه انطلقْن سنة 1818، مع الآباء الأنطونيِّين أوّلًا الذين أحيِّيهم بشخص قدس الرئيس العام الأباتي مارون ابو جوده ومجلس المدبّرين. ثمّ سنة 1932 انطلقت الرهبانيّة متجدّدة مع خادمة الله الأمّ إيزابيل خوري، التي نرافق دعوى تطويبها بالصلاة، كي يُظهر الله قداستها، وتعلنها الكنيسة على مذابحها. فكانت غاية تجديد الجمعيّة، على يدها، تجدّدًا عميقًا في الحياة الروحيّة والديريّة أوّلًا، ثمّ التزامًا في حقل الرّسالة لخدمة الكنيسة والمجتمع، مع قراءة مستمرّة لعلامات الأزمنة.
وفي المناسبة، تصدرن كتاب “تاريخ دير ومدرسة مار ضومط، مسيرة شكرٍ وشغفٍ ورجاء”، باعتناء الأخت باسمه، والأستاذ الياس كرباج، والآنسة مدلين الحاج، مشكورين على هذا الانجاز الّذي يحيي ذكريات مسيرة المئتي سنة.
2. الحياة الروحيّة في وسط الجماعة هي نموّ في تقديس الذات، والتفاتة حبّ للأمور الصغيرة، كما نجدها في الإنجيل من مثل: نفاد الخمر في عرس قانا، ضياع خروف بين 99، الفلس الذي قدّمته الأرملة في الهيكل، جلب زيت مع المصابيح في آنية في حال تأخّر مجيء العروس، السؤال عن كمّية الخبز في يد التلاميذ لإطعام الجماهير، تهيئة الجمر والسمك والخبز على شاطئ بحيرة طبريّة بعد الرّجوع من الصيد العجيب[1].
بهذه الالتفاتة إلى تفاصيل وحاجات صغيرة، يتكوّن البُعد الإنساني والجماعي في كلّ شخص، وتُبنى الشّركة في المحبّة، ويُعاش فرح الإنجيل، واختبار المسيح القائم في وسط الجماعة. من قلب الحياة الرّوحيّة في الجماعة، تنطلق الرّسالة لإشراك الآخرين في هذا الفرح وهذا الاختبار، وفي جمال الشركة التي تعكس صورة الثالوث القدّوس، على مثال العائلة المقدّسة في الناصرة، وجماعة المؤمنين الأولى “حيث كانوا كلُّهم قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة” (أعمال 2: 1).
هذه الحياة الجماعيّة النّابعة من الصلاة والقدّاس اليومي عاشتها الأمّ المجدِّدة إيزابيل، واعتبرتها الأساس للعمل الرسولي الذي هو، بالنسبة إليها، تجسيد لإرادة الله التي يكشفها للراهبة في هذه الصلاة-الصّلة بينها وبين مَن تكرّست له.
3. وهكذا، من دير مار ضومط انطلق العمل الرسولي، وكانت بداية أوّل مدرسة فيه منذ خمس وثمانين سنة. وإذا بالدير والمدرسة ينموان مثل “حبّة الخردل التي تصبح شجرة تعشعش فيها طيور السماء” (مر 4 : 30-32). فتفرّع عنهما ثلاثة وثلاثون ديرًا ومؤسسة رسولية، منها ستة وعشرون على ارض لبنان، وسبعة في بلدان الانتشار والاراضي المقدسة.
يذكّرنا قداسة البابا فرنسيس، في ارشاده الرسولي الاخير “افرحوا وابتهجوا”، حول “الدعوة الى القداسة في عالم اليوم”، أننا “في ممارسة رسالتنا ونشاطنا، على تنوّع مساحتهما، نبني مع المسيح ملكوت المحبة والعدالة والسلام الشامل؛ واننا لا نستطيع النمو في القداسة من دون الالتزام ، جسدًا وروحًا، في اعطاء الاحسن لعالمنا. ليس من علامات الصحّة الروحية ان نحبّ الصمت هربًا من التفاعل مع الآخرين، وان نبحث عن السلام والهدوء تجنبًّا للعمل، وأن نَخلُد الى الصلاة احتقارًا للخدمة. غير اننا مدعوون للتأمل حتى في وسط العمل، وللنمو في القداسة عبر القيام برسالتنا الخاصة بمسؤولية وسخاء” (راجع الفقرتين 25-26).
واكّد البابا بندكتوس السادس عشر ان “القداسة ليست سوى المحبة المعاشة بملئها”[2].
4. بهذه الروحانية كانت انطلاقة الراهبات الانطونيات إلى عملهن الرسولي المتنوّع في لبنان وخارجه. فأعطين التربية حقّها، كما هو ظاهر في ثانوية مار ضومط هنا وفي مدارس الجمعيّة الاخرى، بفضل القرار بتأمين جودة التعليم، وتوفير التربية على القيم الروحية والاخلاقية والاجتماعية والوطنية لاجيالنا الطالعة، في مبانٍ لائقة وبوسائل تربويّة ومختبرات تتماشى مع التّقدّم العلمي، بهدف تخريج طلاّب على أعلى مستوى من العلم، ومسيحيين ملتزمين، ومواطنين نشيطين محبّين لوطنهم. من اجل تعميم هذا التعليم وهذه التربية انشأت جمعية الراهبات في هذا الدير المكتب التربوي بغية تنشئة الكوادر الادارية والتعليمية تنشئة دائمة، وتعزيز التربية الروحية والتعليم المسيحي، ورصد التطلعات المستقبلية، ووسائل التعليم الفضلى.
5. ولكن في المقابل نرى ان الدولة اللبنانية، عن قصد او عن غير قصد، بنيّة متعمّدة او عن إهمال، تعمل على هدم المدرسة الخاصة، ومن بينها المدرسة الكاثوليكية، وبالتّالي النظام التربوي في لبنان والتّعليم النّوعي، بإصدارها القانون 46/2017 وتطبيقه على المدارس الخاصة، وإرهاقها به مع أهالي التلامذة، وتنصّلِها من واجب دعم هذه المدارس التي هي ذات منفعة عامة، مثل المدارس الرسمية، بينما تدعم الدولة هذه الاخيرة بفرض ضرائب على المواطنين وتاتي كلفة الطالب في المدرسة الرسمية اعلى منها في المدرسة الخاصة، ما يعني هدر مال الدولة من دون حساب.
6. هل يعلم اهالي الطلاب، ان مجموع الزيادات على رواتب السبعة عشر الف معلم ومعلمة، بين داخلين في الملاك ومتعاقدين، في المدارس الكاثوليكية، التي تفرضها الدرجات الستّ الاستثنائية، والملحق 17 من السلسلة، يبلغ 117،529،320،000 ل.ل. ما يوازي 118،352،880 دولار اميركي، بحسب دراسة علمية دقيقة أجرتها الأمانة العامّة لمدارسنا الكاثوليكيّة؟ ايّة مدرسة تستطيع تحمّل المبالغ الخاصة بها من دون زيادة اقساطها؟ وكيف ستساعد العائلات المتعثّرة؟ فاصبح من واجب أهل التلامذة الوقوف الى جانب مدرستهم لمطالبة الدولة بواجبها الدستوري، كما في سائر البلدان، بتحمّل العبء المفروض منها على عاتقهم، لا على عاتق مدرستهم. فهذه، اذا لم تساعد الدولة أهالي تلامذتها، ستقفل ابوابها، فيتشرّد تلامذتها، ويزجّ معلموها وموظفوها في عالم البطالة. وهل يعلم أهالي التلامذة ان وزارة التّربية طلبت أمس في مؤتمر بروكسل الخاص “بدعم مستقبل سوريا والجوار”، بملغ 364 مليون دولار سنويًا لتأمين التّعليم للنازحين السّوريين؟ أليس بمقدورها تأمين 118 مليون دولار لتعليم الطلاّب اللبنانيين في المدارس الكاثوليكيّة وهو مبلغ أقلّ بكثير من نصف المطلوب لتعليم النّازحين السورين؟
وماذا لو بقي السّورييون في لبنان، كما تبيّن من إرادة الأسرة الدّوليّة الّتي انكشفت بالأمس في مؤتمر بروكسيل، حيث الحديث عن أنّ “الظّروف الرّاهنة في سوريا تمنع عودتهم”، وعن “عودتهم الطوعيّة والمؤقّتة”، وعن “انخراطهم في المجتمع اللبناني وسوق العمل”، وعن “حمايتهم المستمرّة في مواجهة خطر الطّرد والعودة القسريّة”، وعن “تحسين وضعهم القانوني؟[3]“
إنّنا نؤكّد ونتبنّى بيان كل من فخامة رئيس الجمهوريّة ودولة رئيس مجلس النوّاب، بالإضافة إلى المؤتمر الصّحفي لوزير الخارجيّة، بهذا الخصوص. فنفهم تمامًا أنّه لا يمكن الاتّكال على الأسرة الدّوليّة لتأمين عودة النّازحين السّوريين إلى بلادهم. هذا حقّهم وواجبهم، بحكم المواطنة والمسؤوليّة عن تراثهم وثقافتهم وحضارتهم ووطنهم.
ونتساءل: أليس أهل التلاميذ اللبنانيين أولى بمال الدولة من الذين يمعنون في الفساد بسرقته وهدره وصفقاته ورشواته، وبالهروب من ضرائبه، وبالعمولات على مشاريعه، وكلّ ذلك باعتراف المسؤولين انفسهم؟ ويقولون: “إنّ الخزينة فارغة”. أجل لأنّها أُفرغت في الجيوب، حتّى بات ثلث الشّعب اللبناني تحت مستوى الفقر المعروف عالميًا، وباتت البطالة تتآكل ثلث شبابنا وقوانا الحيّة.
7. ومع هذا كلّه، سنظل نطالب المسؤولين في لبنان، ونهزّ ضمائرهم، وننبّههم عن الكارثة الاجتماعيّة الآتية. وفيما هم يربطون الاصلاح بالبرلمان الجديد الآتي في 6 أيّار المقبل، لعلّه يأتينا برجالات دولة حقيقيّين غير عاديّين، فنحن نضع رجاءنا الحقيقي في المسيح القائم من الموت، الّذي إليه نرفع صلاتنا لينشلنا بقدرته من الظّلمة الّتي تتخبّط فيه بلادنا وشعبنا. وصلاتُنا تسبيح وشكر وتمجيد للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *
[1] راجع الإرشاد الرسولي للبابا فرنسيس “إفرحوا وابتهجوا” الصّادر في 19 أذار 2018، الفقرة 144.
[2] المقابلة العامة، 13 نيسان 2011؛ راجع الفقرة 21 من الارشاد الرسولي: “افرحوا وابتهجوا”.
[3] راجع بيان مؤتمر بروكسيل (24-25 نيسان 2018)، البندين 17 و18.