البطريرك الراعي في حدث الجبّه
نشاط البطريرك
أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن لبنان لن ينهض من أزماته السّياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة، إلاّ على يد سياسيين ومسؤولين كبار يتحلون بالشجاعة والتّجرّد من المصالح الرّخيصة، والإغراءات الماليّة، والأرباح غير الشّرعيّة. مشيرا الى ان لبنان يحتاج إلى رجالات دولة حقيقيين جاؤوا ليعطوا بتفانٍ وإخلاص، لا ليأخذو ما ليس يحقّ لهم. حينئذن يُحفظ المال العام، ويكثر بوفرة، وتتأمّن للمواطنين كلّ حقوقهم الأساسيّة من أجل عيش كريم ومكتفٍ. لانّ حقوقهم في الحصول على فرص عمل وتأمين المسكن والعلم والطّبابة هي لهم بحكم المواطنة ومن واجب الدّولة والمسؤولين. وليست منّة من أحد.
كلام البطريرك الراعي جاء في عظة قداس الاحد في كنيسة مار دانيال في حدث الجبة حيث ترأس قداس العيد يعاونه المطرانان جوزيف نفاع ومروان تابت وكهنة الحدث حبيب صعب وجوزيف صفير وفريد صعب، كما شارك وفد من مجلس اساقفة كندا المطران ليونيل جاندرون، ورئيس اساقفة إدمنتون المطران ريتشارد سميث والخوري ميشال قصاص وعدداً من الكهنة ومسؤولي المؤسسات الراعوية.
وحضر القداس وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، الشيخ روي عيسى الخوري، سعيد طوق، رئيس بلدية حدث الجبة المحامي جورج الشدراوي، رئيس رابطة قنوبين للرسالة والتراث نوفل الشدراوي، القاضي جوزيف صفير وحشد من أبناء الرعية والجوار.
بداية القداس كلمة ترحيب من كاهن الرعية حبيب صعب شكر فيها للبطريرك حضوره وترؤسه قداس عيد الرعية وإزاحته الستارة عن تمثال الشهيد أبو كرم الحدثي.
وبعد الإنجيل المقدس ألقى البطريرك عظةً بعنوان “من يحب كثيراً يغفر له الكثير” وجاء فيها: عندما جاءت المرأة الخاطئة المعروفة في المدينة، وأعربت عن ندامتها وتوبتها جهاراً أمام الناس وهي ساجدة وراء يسوع تبلل قدميه بالدموع، وتنشفها بشعر رأها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب، أدرك يسوع أن توبتها فعل حب كبير لله فأعلن: “من يحب كثيراً، يغفر له الكثير”. وقال للحاضرين أن “خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبت كثيراً”. وتوجه إليها قائلاً: “إيمانك حلصلك إذهبي بسلام”. (لو7:47-48). خلاصة التعليم الهي هي أولاً أن التوبة في جوهرها فعل حب لله صادر من قلب إنسان يندم على خطاياه ويلتمس مغفرتها من رحمة الله. وثانياً أن رحمة الله أكبر من خطايا البشر مهما ثقلت. ذلك ان رحمته تتبع من أحشاء أبوته، فلنلتمس منه نعمة توبة القلب، لبدء حياة جديدة.
وأضاف: يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية في عيد القديس النبي دانيال، شفيع رعية حدث الجبة العزيزة. وفي المناسبة نحتفل بإزاحة الستارة عن تمثال أبو كرم الحدثي، شهيد الإيمان والحرية. فيطيب لي أن لأحييكم مع سيادة أخينا المطران جوزيف نفاع، نائبنا البطريركي العام على منطقة الجبة السامي الإحترام، ونحيي كاهن الرعية وسائر الكهنة وراهباتها، ورئيس المجلس البلدي والأعضاء والمخاتير ومجالسهم، والوجوه الكريمة الحاضرة، أبناء الرعية وبناتها. وأنا، إذ نهنئكم بعيد القديس دانيال النبي، نقدم هذه الذبيحة المقدسة على نواياكم، ونوايا عائلاتكم. ونذكر بصلاتنا مرضاكم راجين لهم الشفاء الجسدي والروحي والمعنوي، ونصلي لراحة نفوس موتاكم الذين سبقونا الى بيت الرب.
وقال: نحتفل بعيد النبي دانيالأ، شفيع الرعية الذي إشتهر بتفسير أحلام الملوك، فقال لهم تفسيره بشجاعة وتجرد. وكانت أحلام عن سقوطهم، فأحبه الملوك وإحترموه وقدروه، ولا سيما داريوس في أواخر سنة 600 قبل المسيح. دافع الملك عنه بوجه وزرائه، الذين حسدوه لمنزلته عند الملك ووشوه إليه بأنه لا يسجد للتمثال الذهبي. فطرحوه في جب الأسود فلم تؤذه. ففرح الملك بنجاته فرحاً عظيماً وأمر أن يرمى الذين وشوه في جب الأسود، فإفترستهم. وقتل دانيال تنيناً كانوا يعبدونه فطرحوه في الجب مرةً ثانية، فنجاه الله من أنياب الأسد وأخرى أعداءه. في سفر دانيال، وهو من مجموعة الكتب المقدسة في العهد القديم، نجد دروساً عن الإيمان والرجاء، ولاهوت تاريخ شعب الله والدعوة الى الإعتصام بالله وعنايته في كل صعوبة من حياتنا، وبخاصة في محن الإعتداء والإضطهاد، من أي نوع كان، جسدياً أم روحياً أم معنوياً. إننا نلتمس شفاعته في كل الظروف.
وتابع: نحتفل معكم بإزاحة الستارة عن تمثال القائد الحدثي، شهيد الإيمان والحرية. فهو بعد مقتل الأمير فخر الدين المعني الثاني على يد الأتراك قام بالإنتفاضة التاريخية ضد والي طرابلس، ليدافع عن كرامة شعبه وعن بكريرم الطائفة، وليعبر عن رفض الموارنة لكل سلطة غريبة، وعن إرتباطهم بجبل لبنان كقاعدة لحريتهم. فلا عجب، إنه إبن الحدث المعروفة بكونها معقلاً مارونياً، يستمد قوته وروحانيته من الوادي المقدس وأريج القديسين من بطاركة وأساقفة وكهنة ونساك ومؤمنين. فأعطت الحدث ثلاثة بطاركة كبار توالوا تباعاً على كرسي سيدة قنوبين على مدى تسع وسبعين سنة، بعد البكريرك يوحنا الجاحي الذي نقل الكرسي من سيدة إيليج الى سيدة قنوبين عام 1440، وهم يعقوب الحدث (1468-1445)، بطرس إبن حسان الحدثي (1468-1492) وسمعا بن داود بن حسان الحدثي (1492-1524). كما أعطت الحدث عدداً وفيراً من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، بفضل عائلاتها المسيحية المارونية المحافظة على تقاليد الإيمان والقيم الروحية والأخلاقية، فضلاً عن وجوه العلم والسياسة والقضاء والإدارة وسواها.
إنتفاضة القائد أبو كرم الحدثي بشجاعته التاريخية المعروفة، سمتمدة من تقاليد الحدث، ومن قوة الإيمان المرتفعة كالبخور من الوادي المقدس، ومن قيادة البطاركة الحدثيين الثلاثة، ومن شجاعة النبي دانيال وصلابة إيمانه والرجاء. فلما راح والي طرابلس، بعد إعدام الأمير فخر الدين الثاني الكبير في القسطنطينية إسطنبول اليوم، بتاريخ 4 آذار 1635، يقوم بأعمال إنتقامية شرسة ضد الموارنة، حلفاء الأمير ويفرض الضرائب الباهظة عليهم، وينكل الى أقصى الحدود بالبطريرك جرجس عميره، ليسلمه ثروة أبو كرم الذي قيل له أنه اودعها في دير قنوبين. فإقتاد جنود الوالي البطريرك مكبل الأيدي وتحت الضرب الى الجبال الوعرة، وربطوه هناك بالسلاسل مع رفاقه الموارنة الذين ضربوا بالعضي 35 و40 ضربة ثم أطلقوهم بشرط تسليم المال، فلجأوا الى الأحراش والمغاور. عندها قام أبو كرم الحدثي كالأسد بإنتفاضته حتى إستشهاده خنقاً في طرابلس سنة 1640، بعد أن حضر تلقائياً أمام الباشا التركي، ودافع ببسالة مذهلة عن إيمانه المسيحي الكاثوليكي بيسوع المسيح رافضاً إغراءات الوالي بوظائف رفيعة لقاء إنكاره الدين المسيحي وإعتناق الإسلام، ومجدداً إلتزامه الدفاع عن شعبه ووطنه. ولقد تناقل المؤرخون بدءً من البطريرك المكرم إسطفان الدويهي، فإلى مؤرخين لبنانيين وأجانب أخبار أبو كرم الحدثي وبطولات إنتفاضته وصلابة إيمانه.
وتابع: في مجتمعنا الذي يسوده الفساد السياسي والإداري لدى عدد يتزايد يوماً بعد يوم، بسبب مخالفة الدستور والقانون روحاً ونصاً وتعطيل أجهزة الرقابة وعدم تنفيذ معظم أحكام القضاء، والتغطية السياسية من النافذين لكل هذه المخالفات، وفي طليعتها اليوم عدم إجراء الإنتخابات النيابية الفرعية، وربما تلك العادية المستحقة في أيار المقبل، كما يروجون ويهيئون النفوس لتقبل هذا الإرتكاب المشين. مثلما كان يحصل في المرات الثلاث الماضية. فإذا بالدستور والقانون والعدالة يفقدون قيمهم وكرامتهم، وتفقد الدولة مهابتها وقدرتها. ومن المؤسف أن يكون ذلك على يد حكامها والمسؤولين، فتصبح الدولة الواحدة دويلات ومربعات. نحن بأمس الحاجة الى رجالات دولة يتحلون بشجاعة وتجرد النبي دانيال والقائد أبو كرم الحدثي. فلن ينهض لبنان من أزماته السياسية والإقتصادية والإجتماعية، إلا على يد سياسيين ومسؤولين كبار وكبرهم لا في نفوذهم السياسي بل في شجاعة التجرد من المصالح الرخيصة، والإغراءات المالية والأرباح غير الشرعية. أجل، لبنان اليوم يحتاج الى رجالات دولة حقيقيين جاؤوا ليعطوا بتفان وغخلاص، لا ليأخذوا ما ليس يحق لهم. حينئذ، يحفظ المال العام ويكثر بوفرة وتتأمن للمواطنين كل حقوقهم الأساسية أجل عيش كريم ومكتف. إن حقوقهم في الحصول على فرص عمل وتأمين المسكن والعلم والطبابة هي لهم بحكم المواطنة ومن واجب الدولة والمسؤولين وليست منة من أحد.
وختم: اللهم أنعم علينا بمثل هؤلاء الرجالات ليخدموا الوطن والشعب والمؤسسات وفقاً لقلبك. فنرفع نشيد المجد للآب والإبن والروح القدس، الآن والى الأبد آمين.
وبعد القداس أزاح البطريرك الراعي والوزير باسيل ورئيس البلدية ورئيس رابطة قنوبين والمطارنة الستارة عن تمثال الشهيد أبو كرم الحدثي الذي قدمه نوفل الشدراوي ورفع وسط ساحة البلدة.
عقب ذلك لقاء في القاعة الراعوية ألقى فيه كلمة رابطة قنوبين الزميل جورج عرب عرض فيها علاقة حدث الجبة بالشهادة منذ سنة 1283 في مغارة عاصي الحدث وصولاً الى الأحداث اللبنانية الأخيرة حين إنخرط شبابها بالمقاومة اللبنانية للدفاع عن الإيمان والحرية. وأكد إستعداد رابطة قنوبين للتعاون مع مختلف الجهات المهتمة بتراث الوادي المقدس وتاريخ الكنيسة المارونية.
ثم ألقى رئيس البلدية المحامي جورج الشدراوي كلمة شكر فيها البطريرك الراعي على زيارته لحدث الجبة ورعايته احتفالية العيد وازاحة الستارة عن تمثال ابو كرم الحددي.وتحدث عن تاريخ وبطولات ابو كرم وتاريخ انشاء كنيسة مار دانيال وتابع:السنة الحالية سنة الشهادة والشهداء وبالامس الاول صادف تشييع شهداء الجيش اللبناني البطل الذي سطر بدمائه اروع ملاحم البطولة في معركة فجر الجرود ونحن بالمناسبة نتقدم من اسر الشهداء وقيادة الجيش والافراد باصدق التعازي وننحني اجلالا لارواحهم الطاهرة ونتمنى الشفاء العاجل للجرحى ونؤيد جطوات جيشنا في وأد الفتن التي يتعرض لها وطننا الحبيب لبنان.
واضاف من المنطلق عينه فإننا نستذكر اليوم شهداء القوات اللبنانية ومن بينه اربعة من ابناء هذه البلدة حيث ترفع الذبيحة الالهية لراحة انفسهم برعاية غبطتكم ونقول لهؤلاء الابناء والرفاق باننا على العهد باقون لان قدرنا ان نناضل ونصمد ونواجه في هذه المنطقة من العالم من اجل لبنان دون كلل او ملل وكلما دق الخطر .
وختم شاكرا لرابطة قنوبين للرسالة والتراث اعداد وتنظيم المناسبة وللشيخ نوفل الشدراوي بادرته الكريمة .
بعدها شارك البطريرك الراعي والشيخ الشدراوي ورئيس البلدية وكشاف مار دانيال في قص قالب الحلوى وشربوا نخب المناسبة . ووزعت رابطة قنوبين بالمناسبة كتاباً بالعربية والإنكليزية للأب سركيس الطبر حول سيرة حياة أبو كرم وظروف إستشهاده.
وبعيد الظهر إستقبل البطريرك الراعي وفد مجلس اساقفة كندا يرافقهم الاب طوني فياض والاخت لطيفة فياض ورئيس مؤسسة المطران شبيعة جو شبيعة وعدد من مكتب الهجرة في مطرانية كندا.
PHOTOS:Patriarch Rai Mass_Hadath el Joubbeh_10.9.2017