كلمة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في افتتاح السنة القضائيّة
نشاط البطريرك
إخواني السادة المطارنة الأجلّاء،
القضاة والموظفون القضائيّون المحترمون،
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء.
يسعدني أن ألتقي بكم بين عيدي الميلاد المجيد ورأس السنة، هنا في قاعة المحكمة، لكي نتدبادل أطيب التهاني والتمنيات بالعيدين، وفي قلوبنا شعلة رجاء بأنّ المسيح الربّ مخلّص العالم وفادي الإنسان سيخرجنا من المعاناة السياسيّة والإقتصاديّة والماليّة، التي نعيشها وتشتدّ يومًا بعد يوم.
وأوجّه تحيّة شكر لعزيزنا الخوري جوزف نخله، رئيس محكمتنا الإبتدائيّة الموحّدة الذي عبّر باسمكم عن تهانيكم وتمنياتكم الصادرة من قلوبكم. وإنّي في المناسبة أعرب عن تقديري لما تبذلون من جهدٍ وتفانٍ في خدمة العدالة. لكنّني لا أخفي عليكم أنّ شكاوى تأتينا من نوع: التأخير والمماطلة في أعمال الدعاوى وإصدار الأحكام، وتأثيرات على القضاة من كنسيّين ومدنيّين، وداليّة وتأثير بعض المحامين وتأثيرهم على بعض القضاة، وتمييز سلبي وإيجابي بين القضاة، وهدايا القضاة ورشوات ربما لا تكون هذه الشكاوى صحيحة، ولكن يجب أخذ الحيطة لتجنبها.
لقد طرح رئيس المحكمة في كلمته أسئلة لتوضيح بعض نقاط في “التعميم بشأن الدعاوى الزواجيّة ومفاعيل الزواج المدنيّة في المحاكم المارونيّة” الذي أصدرته في 11 آذار 2019، ثمّ أتبعته “بملحق” في أوّل تشرين الأوّل 2021.
فيسعدني أن أتناول في كلمتي ثلاث نقاط: المحاكمة الحقوقيّة المختصرة، الأسئلة والأجوبة، أصول المحاكمات وخدمة القاضي.
أوّلًا: المحاكمة الحقوقيّة المختصرة
ق 1343-1356
المحاكمة الحقوقيّة المختصرة، تتضمّن ثلاثة: أمام قاضٍ منفرد، ومبدأ الشفويّة، والسرعة. إنّنا نتناولها بستّ نقاط:
1) هي واجبة بالنسبة للمسائل التي يأمر القانون بحلّها “على وجه السرعة” مثل: ق 1188 بند 2 و 4: عندما يتّضح للقاضي الفرد أنّ عريضة فتح الخصومة تخلو من أي أساس، ولا يمكن أن يظهر أيّ أساس أثناء الخصومة. ق 1195 بند 3: عندما يطلب المتقاضون من القاضي في غضون عشرة أيّام لتغيير القرار الذي حدّد به موضوع النزاع مستمدًّا إيّاه من مطالبهم ومجاوباتهم. ق 1269 بند 1: عندما تُقدّم عريضة قضيّة طارئة، على القاضي فصل أمرين: هل هي ذات صلة بالقضيّة الرئيسية أم يجب ردّها؟ وهل، إذا قبلها، هي ذات أهميّة وتقتضي حلّها بحكم تمهيدي أم بقرار؟ ق 1310، 5ً: لا مجال لإستئناف حكم أو قرار في قضيّة يستدرك الشرع الفصل فيها على وجه السرعة. ق 1313: إذا نشأت مسألة حول حقّ الإستئناف، تفصل في الأمر على وجه السرعة محكمة الإستئناف. ق 1372 بند 1: عندما تكون المحاكمة وثائقيّة. ق 1383 بند 1: في حالة ترجيح وفاة أحد الزوجين على أن يصدر القرار الأسقف الأبرشيّ.
2) وهي واجبة ولكن مع إمكانيّة استبدالها بالمحاكمة الحقوقيّة العاديّة:ق 1270 بند 1: إذا وجب حلّ مسألة طارئة بحكم تمهيدي، يجب إتّباع المحاكمة الحقوقيّة المختصرة، ما لم يرَ القاضي خلاف ذلك نظرًا لأهميّة الأمر. أمّا إذا كان حلّ المسألة بقرار تحيل المحكمة الأمر إلى المحقّق أو إلى الرئيس (البند 2). ق 1379: قضايا الهجر بين الزوجين تُفصل بمحاكمة حقوقيّة مختصرة، ما لم يطلب أحد الزوجين محاكمة حقوقيّة عاديّة.
3) وهي إختياريّة: ق 1308: يستطيع القاضي معالجة قضيّة بطلان حكم وفقًا لقوانين المحاكمة الحقوقيّة المختصرة. لفظة “يستطيع” تنطوي على تفضيل المحاكمة المختصرة. فالإسراع بالبتّ بشأن حقيقة براهين البطلان يسمح بإعادة الحكم إلى الحالة السابقة.
4) تُقصى المحاكمة المختصرة:
– صريحًا في دعاوى بطلان الزواج ( ق 1375)
– بطريقة غير مباشرة لأنّ القانون ينصّ على وجوب المحاكمة العاديّة في الحالات التاليّة:
1- في التحقيق بدعوى “مقرّر غير مكتمل” و”حلّ الزواج لصالح الإيمان” (ق 1384: تُتبع قوانين الكرسي الرسولي)
2- في دعاوى بطلان رسامة مقدّسة (ق 1096)
3- في المحاكمات الجزائيّة (ق 1471 بند 1)
4- في الدعاوى التي تقتضي بموجب القانون أن تفصلها محكمة جمعيّة من ثلاثة قضاة (ق 1084 بند 1 الذي يحدّد الحالات). أمّا الدعاوى الأخرى فيفصل فيها قاضٍ منفرد، ما لم يشأ الأسقف أو المطران المشرف على المحكمة أن تنظر فيها هيئة من 3 قضاة (البند 2).
وإنّا نلفت إلى أمرين:
أ- إذا جرت المحاكمة المختصرة في قضايا يستثنيها الشرع، كانت كلّ أعمال الدعوى والحكم باطلة (ق 1343، بند 2).
أمّا في القضايا الأخرى فتكون الأعمال وحدها باطلة، ويصحّحها الحكم نفسه، كما في القانون 1302 بشأن شكوى بطلان الحكم.
ب- يمنح القانون 1089 القاضي الفرد، في أي محاكمة مختصرة، إمكانيّة أن يضم إليه معاونين إثنين من المؤمنين، من ذوي السيرة الصالحة بصفة مستشارين.
ثانيًا: الأسئلة والأجوبة
1. ما الفرق بين الحقوق التي يوجب القانون بتّها أمام القاضي بالمحاكمة المختصرة (ق 1313) والدعاوى الطارئة المقدّمة أثناء السير بدعوى بطلان زواج؟
الجواب: لا يوجد أي فرق من حيث الجوهر لجهة صلاحيّة القاضي الفرد وبالطريقة المختصرة. ولكن أن يكون البت في قضيّة “حقّ الإستئناف” محفوظًا لمحكمة الإستئناف وفقًا لقوانين المحاكمة المختصرة (ق 1313)، فهذا دليل على أهميّة الموضوع وتأثيره القضائيّ بحيث أنّ القرار لا يقبل الإستئناف بموجب القانون 1310، 5″.
2. إذا لم يوجد أي فرق جوهريّ لجهة صلاحيّة القاضي الفرد، لماذا توجبون في التعميم أن تنظر الهيئة المجلسيّة في الدعاوى الطارئة (راجع 7: تدابير ملزمة، 1″).
الجواب: نوجب ذلك عندما تكون الدعوى في عهدة هذه الهيئة. أمّا إذا كانت الدعوى في عهدة القاضي الفرد، فله هو أن يصدر الحكم التمهيديّ (راجع التعميم: عدد 7: تدابير ملزمة، 1ً).
3. هل قرار القاضي الفرد في مسائل الحراسة والنفقة في دعاوى الهجر بحاجة أيضًا إلى هيئة؟
الجواب: نعود إلى القانون 1378 بند 1 الذي ينصّ على أنّ دعاوى الهجر تُبت بقرار إمّا من الأسقف الأبرشيّ، وإمّا من القاضي الفرد. وفي هذه الحالة تكون المحاكمة مختصرة. ولكن بحسب القانون 1379 يند 1 إذا طلب أحد الزوجين المحاكمة المألوفة، عندئذٍ تكون الهيئة الحاكمة مجلسية. وهنا يلتقي هذا القانون تمامًا مع مضمون القانون 1343.
4.في ضوء هذا الجواب، كيف نتفادى الوقت الأطول في إصدار القرارات المتعلّقة بالدعاوى الطارئة؟
الجواب: أعتقد أنّنا نستطيع تطبيق القانون 1089، فيحلّ عضوا الهيئة المجلسيّة محلّ المعاونين المستشارين للمقرّر، ولكن مع سلطة تقريريّة.
5. ما معنى أنّ “الأسقف الأبرشيّ يحفظ للهيئة المجلسيّة من ثلاثة قضاة النظر في الدعاوى المحفوظة للقاضي الفرد” (ق 1084 بند 2).
الجواب الأسقف الأبرشيّ هو الذي يوجد في أبرشيّته محكمة إبتدائية. أما في لبنان حيث المحكمة الإبتدائية موحّدة، فيحلّ محلّ الأسقف الأبرشيّ المطران المشرف عليها.
أمّا لماذ الإحتفاظ للهيئة المجلسيّة، فيجيب يعود إلى صعوبة الدعوى وأهميّتها الكبرى. وهكذا يُجيب القانون 1085 بند 3 على السؤال حول الرابط بينه وبين سابقه بمعنى أنّ “الحكم، ولو التمهيديّ، والقرارات التي لها قوّة الحكم النهائيّ”، تتحوّل من صلاحيّة القاضي الفرد إلى صلاحيّة الهيئة المجلسيّة بسبب قوّتها كحكم نهائيّ، إذ لا مجال لإستئنافه إلّا مع الحكم النهائيّ كما ينصّ القانون 1310، 4ً.
ثالثًا، أصول المحاكمات وخدمة القاضي
إنّ أصول المحاكمات تشبه سكّة الحديد التي يسير عليها القطار من نقطة الإنطلاق إلى نقطة الوصول. نقطة الإنطلاق ومسارها في أصول المحاكمات هي بحث دقيق عن الحقيقة في كلّ أعمال الدعوى وبيّناتها. فأقوال المتقاضين ولوائحهم وشهادات الشهود وأقوالهم، المشفوعة بالقسم، تفترض أن تكون “حقائقهم” المطابقة لصوت ضميرهم. لا يتعلّق الأمر بخلق حدث غير موجود، بل يإظهار حدث حاصل سابقًا وحاضرًا. أمّا نقطة الوصول فهي خدمة العدالة. إنّ خدمتي الحقيقة والعدالة عبر أصول المحاكمات تندرجان في إطار تدبير الخلاص بحيث أنّ “خلاص النفوس هو القاعدة السميا في الكنيسة”.
وكما أنّ بين نقطة الإنطلاق ونقطة الوصول يوجد رباط حيوي ضامن، كذلك بين الحقيقة والعدالة. “فالحقيقة هي أساس العدالة بل أمّها” بحسب مقولة قانونيّة قديمة، اختصرها المكرّم البابا بيوس الثاني عشر بقوله: “الحقيقة هي شريعة العدالة”. وأضاف : “العالم بحاجة إلى الحقيقة التي هي العدالة، وإلى تلك العدالة التي هي حقيقة” (خطاب إلى الروتا الرومانيّة في 1/10/1942).
لا يستطيع القاضي أن يضطلع بكامل مسؤوليّاته إذا لم يكن ضليعًا في معرفة أصول المحاكمات. فهي تصون مسيرته، وتجنّبه الأخطاء القانونيّة، وبطلان الأعمال، والعيوب في بعضها.
إنّ من أسباب التأخير في الدعاوى المماطلة التي يعتمدها المحامون في إفراطهم بالمهل والآجال فيجب على القاضي التقيّد بمنطوق القوانين 1124 – 1126، واضعًا نصب عينيه ألّا يطول أمد المحاكمة كثيرًا بسبب تمديده، وألّا يلحق ظلم بالطرف الآخر. وليدرك القاضي أنّه لا يتعاطى في الأساس مع ملفّات وأوراقٍ، بل مع أشخاص يطلبون العدالة، وهم متضرّرون من تأخيرها روحيًّا ومعنويًّا وماديًّا.
المهل هي فسحة من الزمن تُعطى للمتقاضي لتقديم عمل قضائيّ. الآجال هي تمديد الفسحة الزمنيّة المعطاة. الجهة التي تمنح المهلة هي إمّا الشرع وتُسمّى شرعيّةً (مثل المهل للإستئناف)، وأمّا القاضي وتُسمّى قضائيّة (يعطيها القاضي لتقديم وثيقة أو بيّنة)، وإمّا توافق الخصمين وإقرار القاضي له بقرار.
بالنسبة لفاعليّة المهل، تكون المهل بسيطة إذا حثّت فقط على ممارسة الحقّ، من دون المساس به. وتكون حاسمة إذا أنذرت بإنطفاء الحقّ. ولكنّها، من جهة الثبات، هي إمّا قابلة الآجال وإمّا غير قابلة الآجال.
الخاتمة
أيّها القضاة الأعزّاء،
إنّ عملكم الدقيق في خدمة الحقيقة والعدالة ينبغي أن يبلغ بكم إلى تكوين اليقين الأدبي من جميع أعمال الدعوى وبيّناتها لكي تتمكّنوا من إصدار أحكامكم وقراراتكم، والله وحده نصب أعينكم.
أنار الله سبلكم بأنوار روحه القدّوس، بشفاعة أمّنا مريم العذراء كرسيّ الحكمة.
ولد المسيح! هللويا!
وسنة جديدة 2022 مباركة !
* * *