كلمة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي – المجلس الاقتصادي الاجتماعي العدالة الاجتماعية – الواقع الاجتماعي وأزمة هجرة اللبنانيين
نشاط البطريرك
يسعدني ان ألبي دعوة الصديق شارل عربيد رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لالقاء كلمة بحضور السادة اعضاء المجلس والنقباء من مختلف القطاعات، ورئيس الهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي العام، في اطار اللقاء الاول للحوار الاقتصادي والاجتماعي بموضوع: “العدالة الاجتماعية – الواقع الاجتماعي وأزمة هجرة اللبنانيين”. فيطيب لي أن أحييكم جميعًا، متمنيًا لهذا اللقاء الثمار المرجوة.
يشمل الموضوع أربع نقاط.
أولًا، العدالة الاجتماعية
1. عندما نقول “عدالة” لا نعني ان كل البشر متساوون في كل شيء، أو أنّه من الواجب أن يكونوا على هذا النحو. فالله خلق الناس متنوّعين، ويستحيل في المجتمع المدني ان يرتفع الناس الى مستوى واحد. بل نعني أنّ جميع البشر، على تمايزهم، هم متساوون في بنوّتهم لله، وفي كرامتهم الانسانية، وفي تمتّعهم بالحقوق البشريّة الاساسيّة. بهذا المفهوم تكون العدالة “عدالة طبيعيّة” من صنع الله، ولا يحق لأحد أن ينقضها.
ونقول “عدالة اجتماعية” لنعني تأمين العدالة الطبيعية لجميع الناس، وتخفيف الفوارق بين الافراد والمجتمعات والشعوب، وتوفير تكافؤ الفرص للجميع على كل المستويات. كما نعني ترقيّ الانسان، كل انسان، بنموّه الاقتصادي والاجتماعي والانمائي والثقافي والروحي وبالتالي ترقيّ المجتمع وانمائه.
2. يقتضي تحقيق العدالة الاجتماعية تأمين المستوى اللائق من العيش الكريم لكل افراد المجتمع، وتمكين كل شخص من تنمية كفاءاته وقدراته، لضمان مستقبله، ولامكانية المشاركة في بناء مجتمعه.
3. يقوم المجتمع العادل على العلاقة الكيانية والعضوية بين الفرد والمجتمع، والمعبّر عنها بالحقوق والواجبات. ومعلوم ان لا حقوق من دون واجبات، ولا واجبات من دون حقوق. هذه هي المعادلة التي تحكم العلاقات بين المجتمع (الدولة) والفرد (المواطن)، وبين افراد المجتمع في علاقاتهم بعضهم ببعض.
4. ثمة حقوق اجتماعية اساسية واجبة لكل فرد وجماعة في المجتمع، نذكر منها: الحق في بناء عائلة مكتفية؛ الحق في السكن لتوفير الاطار الطبيعي لنمو الانسان والعائلة في امانٍ واستقرار؛ والحق في العمل كنشاط خلاّق للانسان، ومجال لتأمين سبل عيشه واستمراريته؛ الحق في الصحة والطبابة، لحمايته من المرض والألم، مع حقّه على المجتمع أن يحميه من التعرّض للامراض بسبب التلوّث البيئي والطبيعي؛ الحق في التعليم والتربية والثقافة وهي ثروة اللبناني الاساسية.
ثانيًا، الواقع الاجتماعي
5. لا احد يجهل ان الواقع الاجتماعي هو في أسوء حالات الانهيار. والاسباب الاساسية لا تخفي على احد، هي الحرب التي زعزعت أسس البنيان الاقتصادي والاجتماعي عندنا بشكل شبه تامّ؛ والفساد السياسي ونهب اموال الدولة وهدرها؛ والخيارات السياسية الخاطئة؛ ووضع لبنان في حالة حرب بسبب ادخاله رغمًا عنه في احلاف ونزاعات وحروب اقليمية، وهذا الواقع أوجده في عزلة عن الاسرتين العربية والدولية؛ واستغلال ثورة 17 تشرين من متطرفين ومدسوسين اعتدوا على المصارف والمؤسسات العامة والخاصة والمتاجر، فأعدموا حركتها الماليّة والتجاريّة والاقتصاديّة والسياحيّة؛ وهبوط قيمة الليرة بالنسبة إلى الدولار؛ فجائحة كورونا التي شلّت بلادنا والعالم، مع ما أوقعت من ضحايا بشرية، ومن خسائر ماديّة لا تُحصى. وكان آخرها تفجير – ولا نقول انفجار- مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠.
يُضاف اليها أسباب على المستوى الاخلاقي لا تقلّ خطورة من مثل: تناسي اولية الانسان المطلقة الذي سببته الذهنية الماديّة والعقلية الاستهلاكية، والجشع، والتلاعب بالاسعار، والسعي إلى امتلاك السلع وتكديسها، وكأنّها هدف بحدّ ذاتها، لا مجرد وسيلة لتحقيق الذات وتأمين حياة كريمة ومساعدة من هم في حاجة؛ والإدمان على المخدّرات، والبغاء، وتدنّي الأخلاق، والإبتعاد عن الممارسة الدينيّة، والتطرّف الطائفيّ.
6. وفوق كل ذلك غياب أية استراتيجية خلاصية من الحكومات المتتالية والقوى السياسية، وانعدام روح المسؤولية لدى أهل السلطة. لا بل كلهم امعنوا، بطريقة او بأخرى، ولغاية ظاهرة أو مبطّنة، في افتعال أزمة سياسية حادّة تسببت بأزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.
نحن من منظار الاستراتيجية الخلاصية، نتطلع الى هذا “المجلس الاقتصادي والاجتماعي” بما يضمّ من كفاءات وقدرات، آملين أن يضع هذه الإستراتيجيّة بالتعاون مع النقابات من مختلف القطاعات. والكنيسة داعمة كليًا لهذا العمل بتعليمها الاجتماعي ومؤسساتها، لأنّ طريقها واحد هو الإنسان وكرامته وحقوقه وخلاصه ونموّه الشامل، “فمجد الله الإنسان الحيّ” (القديس ايريناوس).
ثالثًا، الهجرة
7. النتيجة الحتميّة لهذا الواقع الإجتماعيّ المنهار الهجرة التيّ تخطف قوانا الحيّة من خرّيجي جامعات، وأطباء، وممرضين، ومهندسين، ورجال أعمال، وأساتذة، ومصرفيين، وعائلات وسواهم.
أمام هذا النزيف البشري الثمين نتساءل: هل فقد لبنان كليًا ما كان عليه حتى الامس القريب: “جامعة العرب” و “مستشفى العرب” و”مصرف العرب”، و”مكان سياحة العرب”؟
سؤال مؤلم يضعنا جميعًا أمام مسؤولياتنا المشتركة. الكنيسة من جهتها تحافظ على مدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وسائر مؤسساتها الاجتماعية وتطوّرها، في كل المناطق اللبنانية، على الرغم من الضائقة الاقتصادية والاجتماعية والمالية الخانقة. وتقوم بمشاريع إنمائيّة واستثماريّة متنوّعة اكان من جهتها ام بالتعاون مع كل شخص يرغب في الاستفادة من امكانيات الكنيسة. وفي كلّ ذلك توفّر فرص عمل، وتساهم في الحركة الإقتصاديّة. وهذا ليس جديدًا بل كان الإقتصاد على مدى القرون من صلب اهتماماتها. فهي معنية بالعمل الدائم من اجل الخير العام الذي منه خير الجميع وخير كل فرد، لاننا جميعنا مسؤولون عن جميعنا “(البابا يوحنا بولس الثاني: رسالة عامة” الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 38).
وما يقلقنا، بالاضافة الى هجرة شعبنا، تزايد عدد اللاجئين الفلسطنيين والنازحين السوريين. هؤلاء بلغ عددهم معًا نصف سكّان لبنان، ما عدا الولادات التي لا تُسجل. هذا الواقع، مع احترامنا الكامل للواقع الانساني، ولهذا السبب فان لبنان لم يقفل لا ابوابه ولا حدوده، وهذا اساسي عدا عن كونه عبئًا اقتصاديًا ثقيلًا، فانه يشكل خطرًا سياسيًا وديموغرافيًا وأمنيًا وثقافيًا. فمن واجب جميع القوى السياسية توحيد صوتها في المطالبة بحلّ قضية اللاجئين الفلسطنيين، وعودة النازحين السوريين الى بلادهم. لان سوريا هي وطنهم ولهم فيها تاريخ وثقافة. واني اقول لهم ان البلدان لا تقوم فقط بالارض إنما بالثقافة. عودوا الى بلادكم وتابعوا تاريخكم وثقافتكم ولا تهملوها. وفي حال عدم عودتكم فانكم بذلك بحرب ثانية على سوريا وهذه المرّة بايديكم. فالحرب الواى فرضت عليكم وهدّمت الحجر وهجّرتكم، اما الثانية فستهدّم التاريخ والثقافة واقول ذلك محبةً بكم.
رابعًا، الإقتصاد أساس النشاط الإجتماعيّ والحدّ من الهجرة
8. لا يمكن أن تتوفّر الحاجات الإجتماعيّة وحقوق المواطنين الأساسيّة وممارسة العدالة الإجتماعيّة والحدّ من الهجرة من دون إقتصاد قويّ.
الإقتصاد أو إيكونوميا (economia) لفظة يونانيّة ظهرت حوالي عام 400 ق. م. وتعني فنّ إدارة البيت والجماعة، لتصبح فنّ تدبير شؤون المال سواء بتكثيره وتأمين مصادره، أم بتوزيعه.
إقتصاد الدولة هو حالتها الماليّة وكلّ ما يتعلّق بهذه الحالة مثل الإنتاج والتوزيع والإنفاق وأسواق العمل وغيرها. من هذا المنطلق يوجد دول ذات اقتصاد قويّ، أي وصلت إلى اكتفاء ذاتيّ وحقّقت النموّ والوفرة في المال، وغيرها ذات اقتصاد ضعيف.
9. الإقتصاد فنّ قائم على التحليل الإقتصاديّ الجزئيّ المعروف ب (microéconomie) الذي يدرس السلوك الإقتصاديّ للعناصر الإقتصاديّة، بما فيها الأفراد والشركات، وطريقة تفاعلها من خلال الأسواق وندرة الموارد، والأنظمة الحكوميّة، وهذا ما يُسمّى عادةً دراسة العرض والطلب؛ وقائم على التحليل الإقتصاديّ الكليّ (macroéconomie) الذي يدرس الإقتصاد ككلّ ليوضح تأثير العوامل الإقتصاديّة على اقتصاد البلدان، كتأثير الدخل القوميّ ومعدّلات التشغيل (التوظيف)، وتضخّم الأسعار، ومعدّل الإستهلاك الكلّي، ومعدّل الإنفاق الإستثماريّ ومكوّناته. كما يدرس تأثيرات كلّ من السياسة النقديّة والسياسيّة والماليّة المتّبعة في البلاد.
مرّة أخرى نتطلّع إلى هذا المجلس الإقتصاديّ والإجتماعيّ لوضع الخطّة العمليّة من أجل تحقيق النهوض الإقتصاديّ بموجب هذا الفنّ. ونطالب الحكومة الاخذ بعين الاعتبار ما يقدّمه هذا المجلس لان لا احد يمكنه ان يحلّ محله وان يتم عمله، لانه أُسس لهذه الغاية. نحن نشدّد على ايديكم ونشجعكم ونشدد على ضرورة استعانة الحكومة بهذا المجلس والنظر بعيونهم لان المستشارين لا يمكنهم ان يقوموا بعمله، وهذا هو دوره.
10. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ النشاط الإقتصاديّ هو من صلب مشروع الله الذي منح الإنسان الأرض وخيراتها ليحرسها ويحرثها ويأكل من ثمارها” (تك 2: 15-16). فدخل هذا المشروع الإلهيّ في صلب تعليم الديانة المسيحيّة، التي وضعت له تشريعات ومبادئ وقواعد أخلاقيّة ورسائل الباباوات عديدة في الشأن الاقتصادي منذ عهد البابا لاوون الثاث عشر سنة ١٨٨٣ الى اليوم. وهكذا كان همّ الكنيسة تنظيم حياة الإنسان الإقتصاديّة والماديّة وفقًا لإرادة الله. انطلاقًا من هذا الواجب أدانت الممارسات الماليّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة التي أدّت إلى تفشّي الفساد وسوء الأخلاق، وتكديس الثروات الهائلة في أيدي عدد محدود من المواطنين، وغياب الشعور بالتضامن والتكافل.
ومن المؤسف أن يبلغ الأمر إلى سيطرة الفساد الإقتصاديّ والمضاربات والصفقات غير المشروعة، وقد أصبحت شطارة إقتصاديّة وماليّة، لا تشكو عيبًا في نظر الكثيرين، إذ إنّ الخطّ الفاصل بين الحلال والحرام في الحياة الإقتصاديّة قد زال تدريجيًّا من الحياة العامّة والخاصّة.
11. من أهمّ الإصلاحات في الإقتصاد اللبنانيّ، توجيه لبنان نحو مجتمع إنتاجيّ، نظرًا لميزاته الطبيعيّة الهامّة: جمال الطبيعة، الموقع الجغرافيّ على ضفاف البحر الأبيض المتوسّط، التربة الخصبة، وفرة المياه العذبة، القدرات البشريّة العلميّة والثقافيّة الخلّاقة.
معروف أنّ العديد من البلدان الصغيرة تخطّت محدوديّة رقعتها وفراغها من المواد الأوّليّة، وأقامت اقتصادًا مكثّفًا، فباتت المراكز التكنولوجيّة الصناعيّة المرموقة في الإقتصاد الدوليّ (جزيرة سنغافوره، الدانمارك، تايوان، جزيرة صغيرة كانت في عداد البلدان الأكثر فقرًا، ومجتمعها كان ريفيًّا، فأصبحت من بين العمالقة في صناعة الإلكترونيّات في العالم).
لبنان قادر بهمكتم وبهمة امثالكم، ، بالإدارة الطيّبة والوعي والتحرّر من النفوذ المعرقل والنافذين المعرقلين، على أن يغلب الإتجاهات السلبيّة التي يسلكها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ليؤسّس نهضة انتاجيّة شاملة. فيعود لبنان الى طبيعته الاصلية والاصيلة.
شكرًا لإصغائكم
* * *
Photo Album: Bkerki Meetings_1.6.2021