عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي تكريس مذبح وكنيسة مار يوحنّا الحبيب، دير الكرَيم – غوسطا


عظات

 

أما تعلمان أنّه ينبغي أن أكون في ما هو لأبي؟” (لو 49:2)

      1. بقاء الصّبيّ يسوع ابن الإثنتي عشرة سنة في الهيكل من دون معرفة أبيه وأمّه، وضياعهما له ثلاثة أيّام وجوابه: “ألا تعلمان انّه ينبغي أن أكون في ما هو لأبي؟” إستباقٌ لسرّ المسيح الفصحيّ، سرّ موته وقيامته، لفداء الإنسان وخلاص العالم. هذا الحدث انتهى بأن “رجَع يسوع معهما إلى النّاصرة، وكان مطيعًا لهما، وينمو في القامة والحكمة والنّعمة أمام الله والنّاس”. لذا، تحتفل الكنيسة في هذا الأحد بعيد العائلة المقدَّسة، وهو عيد كلّ عائلة تستمدّ كرامتها وقدسيّتها من عائلة النّاصرة المقدَّسة.

      2. يسعدنا أن نحتفل بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة مع جمعيّة المرسَلين اللّبنانيّين الموارنة، وعلى رأسهم قدس الأب العام مالك أبو طانوس ومجلس المشيرين العامّين ورئيس دير الكرَيم وجمهوره، ومعكم أيّها الحاضرون الأعزّاء؛ ونحن نكرّس كنيسة مار يوحنّا الحبيب الجديدة ومذبحها، التّابعة لهذا الدّير الزّاهر. فإنّي باسم إخواني السّادة المطارنة وباسمكم جميعًا، نهنّئ على هذا الإنجاز آباء الجمعيّة وجماعة هذا الدّير الأحبّاء وبخاصّة قدس الأب إيلي ماضي، وبلدة غوسطا العزيزة، وكلّ الذين يؤمّون هذه الكنيسة، سائلين الله، بشفاعة القدّيس الرّسول يوحنّا الحبيب، أن يفيض عليكم وعليهم نعمه وبركاته. وأضمّ صوتي إلى قدس الأب العام لأشكر دولة قطر بشخص سعادة سفيرها على تغطية أكلافها، سائلاً الله أن يكافئ صاحب السّموّ أميرها وحكّامها والشّعب القطري بفيضٍ من بركاته.

      3. وإذ نحن على عتبة اختتام السّنة 2018 التي قضيناها ببركة العناية الإلهيّة، وبدء السّنة الجديدة 2019، نشكر الله، في هذه الذّبيحة المقدَّسة، على ما أفاض علينا من خيرٍ ونِعم، ونلتمس منه أن يجعل من العام الجديد سنة استقرار في وطننا العزيز لبنان، بدءًا من تأليف حكومة جديدة نرجو أن تكون مصغَّرة وحياديّة من ذوي الاختصاص ومعروفين، من أجل إجراء الإصلاحات في البُنى والقطاعات، وتوظيف المال الموعود في مؤتمر “سيدر” بباريس في مشاريع النّهوض الإقتصاديّ المنتج. ويُصار في الوقت عينه، وفي إطار آخر، إلى بناء الوحدة الوطنيّة بين مختلف التّكتّلات النّيابيّة والقوى السّياسيّة والحزبيّة المتناقضة والمتعادية، وجمعها حول الكيان اللّبنانيّ وميثاقه ودستوره وخصائصه. ذلك أنّه من غير الممكن تحقيق هذه الوحدة داخل “حكومة الوحدة الوطنيّة“، ولو سُميت كذلك، لأنّ أعضاءها يبحثون فقط عن مصالحهم ومصالح طوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم، وبذلك تتعطّل قراراتها.

ونسأل الله أن ينعم على بلدان الشّرق الأوسط بالسّلام ونهاية الحروب، وعودة جميع اللّاجئين والنّازحين إلى أوطانهم لتتأمّن لهم حياةٌ كريمة. ونلتمس السّلام ونهاية النّزاعات في الأرض المقدَّسة، حيث وُلد المسيح وأعلن إنجيل السّلام للعالم، وأسّس الكنيسة لخدمة هذا الإنجيل.

      4. عبّر الصّبيّ يسوع، ابن الإثنتي عشرة سنة، عن وعيه الشّخصيّ “أنّه ابن الله” وحدّد الفرق بين أبيه بالطّبيعة الإلهيّة الذي هو الله ويدعوه “أبي“، وبين أبيه بالشّريعة وقد عُرف بين النّاس أنّه “ابن يوسف ومريم من النّاصرة”. كماعبّر عن وعيه لرسالته الإلهيّة، وكشف القيمة الأوّليّة لطاعته لأبيه السّماويّ الذي هو فوق كلّ أبوّة بشريّة وسلطة أخرى. وسيؤكّد في تعليمه أنّ إرادة الله تفوق كلّ روابط الدّم، كما قال يومًا: “من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمّي” (مر35:3). هذا يعني أنّ لكلّ ولد يولد في عائلة دورًا خاصًّا في تصميم الله، سيّد الحياة والتّاريخ. ولهذا لا بدّ من هذا العبور الدّاخليّ في حياة كلّ إنسان: من الإنغلاق على مشروع الحياة الشّخصيّ إلى الانفتاح على مشروع الله. ذلك أنّ كلّ أبوّة بشريّة هي من أبوّة الله الشّاملة، وينبغي أن تنسجم معها، وتستوحي منها.

      5. قلنا أنّ هذا الحدث الإنجيليّ هو  استباق للسّرّ الفصحيّ، سرّ موت المسيح وقيامته لفداء الجنس البشريّ وخلاصه. فأورشليم، حيث مكث يسوع، ستكون مكان آلامه وموته وقيامته. والهيكل حيث تواجد مع العلماء، هو مكان الإصغاء لكلمة الله والاحتفال بالفصح اليهوديّ الذي سينتهي دوره مع قيام الهيكل الجديد، جسد المسيح السّريّ الذي هو الكنيسة. والثّلاثة أيّام من الضّياع ترمز إلى الثّلاثة أيّام التي مكث فيها يسوع في حالة الموت. وبحث يوسف ومريم عنه بألم كبير هو أوّل سيف” جاز قلب مريم أمّه وأبيه، كما تنبّأ سمعان الشّيخ (راجع لو35:2)، وأوّل علامة لإشراكهما في آلام الفداء التي ستبلغ ذروتها في قلب مريم على أقدام الصّليب. وجواب يسوع عن التزامه أوّلاً بما هو لأبيه يستبق آخر كلمة قالها من على الصّليب قبل أن يُسلم الرّوح: “يا أبتِ بين يديك أستودع روحي” (لو46:23). وعدم فهم أبيه وأمّه لهذا الجواب هو اختبار الإيمان المتألّم والصّابر بالرّجاء في مسيرة المشاركة في رسالة المسيح الخلاصيّة، وقد بدأت في فقر بيت لحم وإضطهاد هيرودس والهرب إلى مصر. وأخيرًا حفظ الكلمات والحدث في قلب مريم يرمز إلى كلمة الله التي إذا حُفظت في القلب، مثل حبّة الحنطة في الأرض الصّالحة، تثمر ثمارًا كثيرة في حياة الشّخص والجماعة، وفي الكنيسة والدّولة.

      7. فكما بالميلاد منذ ألفي سنة “كلمة الله صار بشرًا” (يو14:1)، فكانت للعالم بيسوع المسيح، “النّعمة والحقيقة” (يو17:1)، كذلك ينبغي في ميلاد اليوم أن يولد في عقولنا وقلوبنا يسوع المسيح الكلمة الإلهيّة، فيملأها نعمة وحقيقة ومحبّة. هذه هي الحضارة المسيحيّة التي تنشرها الكنيسة، والتي يجب على المسيحيّين الالتزام بها، فيستوحون مبادئها في إدارة الشّؤون الزّمنيّة، وتعاطي الشّأن العام، وتنظيم دولة المؤسّسات والقانون والعدالة، دولة يعمّ فيها السّلام.

      8. عندما أرسل يسوع تلاميذه قال لهم: “أيّ بيتٍ دخلتموه، قدّموا أوّلاً السّلام لهذا البيت” (لو5:10). في رسالته ليوم السّلام العالميّ أوّل كانون الثّاني 2019، كتب قداسة البابا فرنسيس أنّ “البيت” الذي يعنيه الرّبّ يسوع هو كلّ عائلة، كلّ جماعة، كلّ بلد، كلّ قارّة، بفرادتهم وبتاريخهم، و”البيت” هو قبل كلّ شيء كلّ شخص دونما تمييز، وهو أيضًا “بيتنا المشترك” أي الكوكب الذي أسكننا الله عليه، وعهد إلينا الاهتمام به بكلّ عناية (رسالته لليوم العالميّ للسّلام أوّل كانون الثاني 2019، الفقرة1).

      في رسالته هذه ليوم غد، وهي بعنوان “السّياسة الصّالحة هي في خدمة السّلام“، يكتب البابا فرنسيس أنّ “السّياسة وسيلة أساسيّة لبناء المواطنة وتحفيز قدرات المواطن؛ ولكن إذا لم يعشها الذين يتعاطونها بروح الخدمة للجماعة، تصبح أداة ظلم وإقصاء بل وهدم” (الفقرة 2).

      لبنان بحاجة إلى سياسيّين “يرغبون حقًا خدمة العائلة اللّبنانيّة بكلّ مكوّناتها وبدون تمييز، ويتحلّون بالفضائل الإنسانيّة، من مثل: العدالة والانصاف، والاحترام المتبادل، والصّدق والاخلاص والأمانة، وينبذون عيوب السّياسة التي تخجل منها الحياة العامّة، والتي تضع السّلام الاجتماعيّ في دائرة الخطر. أوّل هذه العيوب الفساد، والاغتناء غير المشروع، والسّعي إلى الاحتفاظ بالسّلطة بكلّ السّبل، وحرمان الآخرين من حقوقهم (المرجع نفسه، الفقرتان 3-4).

      9. نسأل الله، أن يفيض علينا في تكريس هذه الكنيسة ومذبحها نعمة إعادة تكريسنا  له في زمن الميلاد، راجين من المسيح الرّبّ أن يولد في قلوبنا، فنتجدّد في حياتنا الرّوحيّة والاجتماعيّة، في العائلة والكنيسة والوطن، لمجد الثّالوث القدّوس وحمده، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

* * *

_____________________________________________________________________________

 

link for Photos Gallery / http://media.bkerki.org

 

Photos: Couvent Kreim_Ghosta_30.12.2018