عظة البطريرك الراعي في الاحد الثاني من زمن الصليب
أخبار عظاتالأحد الثاني من زمن الصليب: تدمير الهيكل ونهاية الأزمنة
القليعة – الأحد 28 أيلول 2025
“من يصبر إلى النّهاية يخلص” (متّى 24: 13).
1. عندما أعلن الرّب يسو ع خراب هيكل أورشليم، ظنّ التّلاميذ أن بخرابه تكون نهاية العالم، ومجيء المسيح الثّاني بالمجد. ولذلك سألوه على حدة: “قل لنا متى يكون هذا، وما هي علامة مجيئك ونهاية العالم” (متى 24: 3). فلم يجبهم على السّؤالين، بل كلّمهم عن المسحاء الدّجالين، وعن حدوث حروب وفتن واضطهادات ومضايقات، ودعاهم إلى الثّبات والإيمان والصّبر: “من يصبر إلى النّهاية يخلص” (متّى 24: 13). وأضاف الحاجة إلى “إعلان إنجيل الملكوت في المسكونة كلّها، وحينئذٍ تأتي النّهاية” (متّى 24: 14).
2. يسعدني أن أكون اليوم معكم في بلدة القليعة الصّامدة، في ختام الزيارة الراعويّة التضامنية والتّفقديّة للبلدات العزيزة: الجرمق والعيشيّة وإبل السقي وكوكبا وجديدة مرجعيون، والآن في القليعة، وبعد الظهر في النبطية والكفور، وكفروه، والحجة والعدوسية. فإنّي أحيّيكم جميعًا، أنتم الآتون من هذه البلدات وسواها من الجنوب العزيز، الأرض المباركة، أرض الكرامة والحريّة. وقد عانيتم من الاعتداءات والحروب والتّعديات الاسرائيليّة على أرضكم وبيوتكم وأرزاقكم. أحيّيكم لأنّكم صمدتم وحافظتم على جذوركم، وأثبتّم أنَّ الجنوب ليس أرض نزاع، بل أرض خصب وبركة، أرض عيش مشترك، أرض وطنيّة صادقة، وأرض سلام.
نحيّي إخواننا من الطائفة الشيعيّة الكريمة، أبناء هذه الأرض المباركة، شركاءنا في المصير والوطن الذين بوجودهم وصمودهم يشكّلون مع إخوانهم المسيحيّين والسّنّة والدّروز شهادة حيّة للتّعايش والكرامة في جنوبي لبنان. ويكتبون تاريخًا واحدًا من العيش معًا والصّمود.
3 إنَّ الليتورجيّا الإلهيّة التي نحتفل بها اليوم هي صلاة شكر: نشكر بها الله على أنّه يحفظنا رغم الشّدائد. ونضرع إليه كي يمنح أرواح الموتى الحياة الأبديّة، وأن يشفي جرحى الحرب، ويعزّي قلوب أهلهم وأنسبائهم.
إنَّ الجنوب اليوم يذكّر كل لبنان برسالته، ويذكّرنا أنَّ الخلاص كما يقول الإنجيل هو للذين يصبرون ويثبتون حتّى النّهاية.
4. لا يمكن أن نكون اليوم في القليعة، وفي قلب الجنوب، من دون أن نتوقّف عند ما تحمّلته هذه الأرض وأبناؤها من خسائر بشريّة ومادية فادحة. هناك عائلات فقدت أعزّاءها، آباء رحلوا وأمّهات ترمّلن وأطفال تيتّموا. هناك بيوت هُدمت على رؤوس ساكنيها، حقول أُحرقت، أشجار اقتُلعت، ومزارع دُمّرت. هناك شباب أصيبوا بجراح جسديّة ومعنويّة ما زالت تلازمهم حتّى اليوم فضلاً عمّن خسروا جنى عمرهم ومصدر رزقهم.
لكن على الرّغم من كل هذه الخسائر، بقيتم واقفين، متمسّكين بأرضكم وبيوتكم ومؤسّساتكم ومدارسكم وكنائسكم، ودور العبادة. تشهدون أنّ هذه الأرض ليست للبيع، وليست للتّنازل. لقد دفعتم أثمانًا غالية، نعم، لكنّكم أكّدتم بدموعكم وصمودكم أنَّ الجنوب حيّ، وأنَّ لبنان لن يموت. إنَّ دماء شهدائكم وصلواتكم، دموعكم وصبركم هي شهادة إيمان بأنَّ الرّب لا يترك شعبه، ويمنحهم القوّة لبناء ما تهدّم، والنّهوض من جديد.
5. لكلمة إنجيل اليوم “من يصبر إلى النّهاية يخلص” بعد وطني. فالوطن هو ثمرة صبر أبنائه وصمودهم. الجنوب هو المثال الأبرز. فأرضكم دفعت أثمانًا غالية، لكنّها بقيت عصيّة على الانكسار. نحن نتأمّل السّلام القريب، سلامًا يترسّخ بانسحاب إسرائيل من الجنوب بشكل كامل ونهائي، وبسط الدولة اللبنانيّة سيادتها الشّرعيّة على كامل أراضيها. وهنا، لا بدّ أن نؤكّد أنَّ الجيش اللبناني، بعنفوانه وهيبته، هو الضمانة والحصانة الوحيدة لأرضنا ولشعبنا، وهو المؤتمن على حماية حدودنا والدفاع عن كرامتنا. إنّ انتشار الجيش على كامل أرض الجنوب ليس فقط مطلبًا، بل هو حق سيادي وواجب وطني.
الجنوب ليس مجرّد منطقة من لبنان، بل هو قلبه النابض. فما يعيشه الجنوب يعيشه كل لبنان. معاناة أهله من الحروب، وخسارتهم للأرواح والبيوت والأرزاق، ونزيف الهجرة، كلّها تعكس أزمة وطن بأسره. لذلك، فإنّ صمود الجنوبيين هو صمود لبنان كلّه، وتضحياتهم هي تضحيات باسم الأمّة اللبنانيّة كلّها.
لقد حان الوقت أن تتحوّل تضحياتكم إلى ثمار وطنية سياسيّة واقتصاديّة وإنمائيّة. فلبنان لا يمكن أن يُبنى من دون إنصاف الجنوب وأهله، ومن دون أن يُعطى لأبنائه ما يحفظ بقاءهم في أرضهم، بعيدًا عن خطر الهجرة أو بيع الأملاك. فلا أوطان من دون أرض، ولا أرض من دون أهلها. إنَّ بقاء الجنوب قويًّا ومحصّنًا هو ضمانة لبقاء لبنان. وإنّ تعزيز صمود أهله هو واجب وطني وأخلاقي. فإنّ مسؤوليتنا جميعًا، مواطنين ومسؤولين وسياسيّين ومؤسّسات، أن نتكاتف من أجل إعادة بناء لبنان على أسس متينة: سيادة لا مساومة عليها، دولة قانون قويّة، إقتصاد منتج يثبّت الناس في أرضهم ويؤمّن لهم هناء العيش وتربية روحيّة ووطنيّة تُخرّج أجيالًا جديدة تحب لبنان وتخدمه بصدق. لذلك يُطلب اليوم من ابناء الجنوب العزيز أن يكونوا ابطال سلام يضحّوا من اجله بمقدار ما ضحّوا خلال الحرب دفاعًا عن كرامتهم وارضهم الغالية على قلب كل لبناني. فالطوبى تعطى لفاعلي السلام لانهم ابناء الله يدعون.
6. نرفع صلاتنا، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، كي يمنح الله لبنان انطلاقًا من ارض جنوبه المقدسة سلامًا قريبًا ودائمًا، سلامًا نابعًا من العدالة والسّيادة والكرامة. نصلّي من أجل أن يُشفى جرح الناس والأرض، وأن تُبنى بيوتكم من جديد، وأن تزهر حقولكم وتعود خيراتها. نطلب من الله أن يبارك أبناء هذه الأرض، فيعيشوا دائمًا في وئام ووحدة، ويكونوا مثالًا لجميع اللبنانيّين على أنّ المصير واحد، والرجاء واحد، والوطن واحد، والكرامة واحدة، والامن واحد. فنرفع المجد والشكر لله، الآب والابن والروح القدس، إله واحد، آمين!










البطريركية المارونية