عظة البطريرك الرَّاعي في أحد مولد يوحنّا المعمدان


عظاتأحد مولد يوحنا المعمدان

“إسمه يوحنّا” ( لو 1: 63).

1. هذا الإسم أعلنه الملاك جبرائيل عندما تراءى لزكريّا. والإسم في العبريّة يعني “الله رحوم”. فتجلّت رحمة الله لإليصابات العجوز العاقر بابن، ولزكريا بحلّ عقدة لسانه، عندما كتب: “إسمه يوحنّا”، ومن خلالهما للشعب كلّه. ففي الإنجيل، كلّ عطيّة شخصيّة هي عطيّة للجماعة. عيد مولد يوحنّا المعمدان هو عيد الرحمة.

2. يسعدنا أن نحيي معًا تذكار مولد يوحنّا المعمدان بالإحتفال بهذه الليتورجيا الإلهيّة. ونحتفل أيضًا بعيد القدّيس الشهيد شارل دو فوكو. فيطيب لي أن أوجّه تحيّة خاصّة لعائلته الروحيّة المؤلّفة من أربع جماعات هي: رهبنة إخوة يسوع الصغار، رهبنة أخوات يسوع الصغيرات، رهبنة أخوات الناصرة الصغيرات، وأخوّة شارل دو فوكو العلمانيّة. تعتنق هذه الجماعات روحانيّة القدّيس شارل ونهجه، وهي: حياة البساطة والزهد والفقر والصمت، والجمع بين العمل والعبادة والتأمّل والسجود أمام القربان المقدّس. نهنّئهم جميعًا بعيد القدّيس شارل الواقع في أوّل كانون الأوّل. ونأمل أن يُدرج عيده في روزنامتنا المارونيّة بقرار من سينودس أساقفتنا المقدّس في دورة حزيران 2023 المقبلة.

3. كما أوجّه تحيّة خاصّة إلى جمعيّة أصدقاء المدرسة الرسميّة في المتن. التي تكرّم الطلاب الأوائل في الشهادة المتوسطة والثانوية العامة بفروعها الأربعة لعام ٢٠٢٢، وتعمل على تحضير الإحتفال بعيد الميلاد في مدارس المتن الرسميّة، وتأمين الهدايا إلى 1750 تلميذًا في الصفوف الإبتدائية. كما تسعى إلى تأمين الطاقة الشمسية لكل المدارس والثانويات الرسمية في قضاء المتن. وقد واكبت مباشرة بدء بناء مدرسة جديدة في ضهور الشوير وفي مزرعة يشوع. كما سعت في تأسيس “جمعية أصدقاء المدرسة الرسمية في جبيل” مع مجموعة من خيرة الرجال والنساء. نسأل الله أن يبارك أعمال هذه الجمعيّة، ويفيض الخير على كلّ الذين يسخون لتحقيق مشاريعها.

4. الرحمة هي حاجة جيلنا وعالمنا: حاجة المتنازعين والمتخاصمين إلى الغفران والمصالحة؛ حاجة المظلومين والـمُهمّشين إلى العدالة والإنصاف؛ حاجة الأجيال الطالعة إلى مكان في وطنهم، وإلى فرص عمل، وإلى مستقبل آمن وواعد، وإلى مجتمع أفضل.

والفقراء بكلّ أنواع عوزهم، الماديّ والثقافيّ والإجتماعيّ، يحتاجون بالأكثر إلى رحمة تتجسّد في أفعال المحبّة والمبادرات الإنسانيّة والإنمائيّة، وفقًا لحاجات الجسد والروح. يعدّد كتاب التعليم المسيحيّ الحاجات الروحيّة والجسديّة مُستلهمًا إيّاها من الكُتب المقدّسة.

فالحاجات الروحيّة هي تربية الإيمان وتثقيفه والتعليم والإرشاد والتشجيع والتعزية والمصالحة والتفهّم والغفران ورفع المعنويّات وحماية الصيت واحترام الكرامة.

والحاجات الجسديّة هي إطعام الجائع، وإيواء الشريد، وإلباس العريان، وزيارة المريض والسجين، والتصدّق على الفقير (راجع متى 25: 31-46).

إنّ تلبية كلّ هذه الحاجات للجسد والرّوح هي فعل عدالة وبرّ مرضيّ لله (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 2447).  فلا يكفي الكلام والدعوة والدعاء لسدّ هذه الحاجات، بل يجب الإلتزام شخصيًّا وجماعيًّا في أفعال المحبّة على أنواعها، عملًا بقول يعقوب الرسول: “إذا لم تعطوا العريان والجائع حاجات جسده، فأيّ نفع في ذلك. كذلك الإيمان؛ إن لم يقترن بالأعمال، فهو ميتٌ في ذاته” (يع 2: 16-17)؛ وبقول يوحنّا الحبيب: “من كانت له خيرات الدنيا، ورأى بأخيه حاجة، فأغلق أحشاءه دون أخيه، فكيف تُقيم فيه محبّة الله؛ لا تكن محبّتكم بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ” (1يوحنا 3: 17-18).

5. الرحمة مطلوبة من كلّ مسؤول في الكنيسة والدولة: المسؤولون السياسيّون عندنا ينتهكون بشكل سافر الرحمة ومقتضياتها تجاه المواطنين. وقد أوصلوا الدولة إلى تفكّكها، والشعب إلى حالة الفقر المدقع والحرمان، وحرموه حقوقه الأساسيّة والعيش بكرامة. وها معطّلو نصاب جلسات مجلس النوّاب لإنتخاب رئيس جديد للجمهوريّة يمعنون في ذلك، وكأنّ العمل السياسيّ أصبح وسيلة للهدم والقهر، بإسقاطه من كونه فنًّا شريفًا لخدمة الخير العام.

6. في لقائنا مع سفراءَ الدول العربيّة في سفارةِ لبنان في روما الأسبوع الماضي لمسنا استعدادًا جامعًا لمساعدة لبنان، البلد الذي يَكِنّون له المحبّة، لكننا وَجَدنا لديهم بالمقابل، عتبًا كبيرًا على النوّاب الذين يمتنعون، عن انتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّة لأسبابٍ ليس لها علاقة بمصلحةِ لبنان. وتساءلوا بأسى كيف أوصل المسؤولون بلادَنا إلى هذه المرحلة من التدهور، وصَمّوا آذانَهم عن كلّ نصائحِ الدولِ الشقيقةِ والصديقةِ للمصالحةِ الوطنيّة العميقة.

وكان واضحًا من مُجملِ الحديث أنَّ مساعدةَ لبنان الفعليّةَ مرتبطةٌ بانتخابِ رئيسٍ أوّلًا، وبتأليف حكومةٍ قادرةٍ على العملِ وإجراءِ الإصلاحات، وبعودةِ لبنان إلى سياستِه المحايدةِ والسلميّةِ والخروجِ من المحاورِ الإقليميّة، إلى بسطِ سلطةِ الدولةِ على كاملِ تراِبها الوطني، والتنفيذ الجِدّي للقراراتِ الدُوليّة، وأن تكون مؤسّساتُ الدولةِ مستقلّةً وتَعمل بانتظامٍ حسب القوانين.

7. إنّ بداية تكوينِ السلطةِ في أيِّ بلدٍ تبدأُ بانتخابِ رئيسٍ للجُمهوريّة، لكن القوى المستقويةُ عندنا، حوّلت الرئاسةَ جَبهةً سياسيّةً في محاورِ الـمِنطقةِ وقَرّرت، رغم معارضةِ الرأيِ العامّ، الاستئثارَ بها لتبقى دولةُ لبنان جُزءًا لا يتجزأ من محورِ الممانعةِ وحروبِها واضطراباتِها المستجِدّةِ، وتضع لبنان في صفوف الدولِ المعاديةِ للأسرتين العربيّة والدولية وجُزءًا من العالمِ المتخلِّف حضاريًّا واقتصاديًّا وماليًّا على غرارِ وضعِ سائرِ دولِ الممانعة وقد كانت في ما مضى دولًا موحَّدةً ومستقرةً وعلى طريقِ النمو.

ومن المؤسفِ أن هذه القوى وحلفاءها لا تُعيرُ أيَّ اهتمامٍ لمصلحةِ لبنان. وهي مستعدةٌ لاستنزافِ الوقتِ أشهرًا وربما سنواتٍ للحصولِ على مُبتغاها. لذلك ندعو مجدّدًا رئيسَ مجلس النواب المؤتَمن على إدارةِ الجلساتِ وتأمينِ الظروفِ الدستوريّة والنصابِ الطبيعيِّ الذي أشارت إليه المادّةُ 49 من الدستور للإسراعِ في إجراء الانتخاباتِ الرئاسيّة، لكي لا يَفقِدُ المجلسُ النيابيُّ مبرِّرَ وجودِه كمركزٍ لانبثاقِ السلطةِ.

8. إنّ هذا الإستخفاف في إنتخاب رئيس للدولة يضع الحكومة ورئيسها بين سندان حاجات المواطنين ومطرقة نواهي الدستور. فحكومة تصريف الأعمالِ هي حكومةُ تصريفِ أعمالِ الناسِ، لا حكومةَ جداولَ أعمالِ الأحزابِ والكتل السياسيّة. ونَتمنّى على رئيسِ الحكومةِ الرئيس نجيب ميقاتي، الذي طالما نأى بنفِسه عن الانقساماتِ الحادّة، أن يُصَوِّبَ الأمورَ وهو يَتحضّر مبدئيًّا لعقدِ اجتماعِ يوم الإثنين المقبل. فالبلادُ في غنى عن فتحِ سجالاتٍ طائفيّة، وخلقِ إشكالاتٍ جديدةٍ، وتعريضِ الأمنِ للاهتزاز، وعن صراع مؤسّساتٍ، واختلافٍ على صلاحيّات، ونتمنى على الحكومةِ خصوصًا أن تبقى بعيدة عن تأثيراتٍ من هنا وهناك لتحافظَ على استقلاليّتِها كسلطةٍ تنفيذية، ولو لتصريف الأعمال.

9. من خلال ما أتيح لنا من لقاءات أخرى في روما، حزّ في نفسنا أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين مشروعِ لبنان لإعادةِ النازحين السوريّين إلى بلادِهم وبين مشروعِ المجتمعِ الدُولي. فالدولُ المانحةُ لا تزال تربطُ العودةَ بالحلِّ السياسيِّ المعقَّدِ في سوريا وبالقرارِ الطوْعي للنازحين، ولا تَضغَطُ على النظامِ السوريِّ لاستعادةِ شعبِه. أمّا نحن فنعتبرُ أنَّ الظروفَ السوريّةَ صارت بغالِبيتها مناسِبةً لعودةِ فوريّةٍ للنازحين. والواجب الوطنيّ يملي عليهم ذلك، حفاظًا على وطنهم وتاريخهم وثقافتهم.

إنّ بقاء نحو مليوني نازح سوري وغيرهِم يُغيرون هُويّةَ لبنان ونظامَه وديمغرافيّتَه ونَسيجَ شعبه، ويشكّلون خطرًا على أمنه. ونناشدُ دولةَ رئيسِ الحكومة طرحَ هذا الموضوعِ دوليًّا، لاسيّما في القِمّة العربيّة ــــ الصينيّة في التاسع من الشهر الجاري في المملكة العربيّة السعودية.

10. على الرغم من كل هذه الصفحة السوداء بيقى الله سيّد التاريخ. فنسأله وهو الرحوم، أن يشملنا ووطنا لبنان برحمته، ويخرج شعبنا من آلامه المريرة، ويذكي في قلوب الجميع شعلة الرحمة. له المجد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين.

*    *    *