كلمة الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق في اللقاء التشاوري
نشاط البطريرك
1. يسعدني، أن أرحّب بكم في هذا الكرسي البطريركي، صاحب الدور التاريخي الجامع والموحّد والمتّسع على مساحة العيش المشترك المسيحي الإسلامي. ونحيّي منظمي هذا اللقاء وملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار، وشبكة الأمان للسلم الأهلي، بالتنسيق مع منتدى التفكير الوطني، الذي يضم مجموعة من الأعلام والمقامات الروحية والثقافية والعلمية.
2. إن اللقاء التشاوري هو ثمرة وعي عدد من اللبنانيين الأمناء للبنان ولرسالته الحضارية؛ فاجتهدوا في نشر ثقافة الحوار والتلاقي والاعتدال والانفتاح ونبذ التطرف والتعصب والانغلاق. وهذا من صميم تعليم الديانات الذي يعزّز نشر ثقافة السلام وعيشها في أنظمة تساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات، وتدير شؤونهم بروح العدالة والإنصاف، وتعزّز حضارة المحبّة. من شأن هذه الحضارة توحيد الأفراد والشعوب، وتنقية ذاكرتهم من رواسب الماضي، ومن مآسي الإنقسامات والصراعات، سيرًا نحو المصالحة العميقة. ينعقد هذا اللقاء ولبنان يمرّ في أقسى الأزمات بنتيجة عوامل داخلية وتحولات وأحداث خارجية، وسط فراغ في سدّة الرئاسة الأولى قد يهدّد ثبات الهويّة اللبنانية والرسالة. وهما موروث حضاري، خصوصيته التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة في وحدة العيش معًا مسيحيّين ومسلمين في إطار الميثاق الوطنيّ القائم على العيش المشترك.
3. يقتضي هذا العيش معًا أن يكون الحوار خيار اللبنانيين، وخيارًا ملازمًا لارادتهم، بحيث لا يعني تغيير الآخر وتبديل قناعاته ومبادئه، بل تعزيز المشاركة والتعاون في تسيير الأمور الوطنيّة وتوطيد الثقة المتبادلة باكتشاف الآخر ومعرفته ومصارحته وتفهم هواجسه ومخاوفه، والعمل على إزالتها.
4. بهذا الحوار الوطنيّ المسؤول نستطيع مقاربة أزمتنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية والديموغرافية، وأخطر تداعياتها الإنهيار المالي غير المسبوق وفساد الطبقة السياسيّة الحاكمة، واستباحة المال العام، واستغلال مرافق الدولة، ونهب مداخيلها وثرواتها، وفراغ الوطن من أبنائه اللبنانيّين الأصليّين بداعي الهجرة، ومضاعفة أعداد النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، وتمدد هذه الأعداد في كل لبنان “برعاية دولية موصوفة”. ويتوّج هذه المشهدية السوداويّة الفراغ الرئاسي، مع الانقسام والتمسك بالخيارات والترشيحات، ولا إقدام على الحوار الصادق البنّاء توصلاً الى الجامع المشترك.
5. وما ينطبق على ملف فراغ الرئاسة ينطبق على سائر الملفات، حيث ينعدم الحوار، الذي نلتقي اليوم لندعو اليه خياراً وحيداً للانقاذ الوطني. إن تجاهل واجب الإقبال على الحوار الوطني، وتحجر المواقف المتقابلة على خيارات الفرض والاملاء، وتصلّب أصحابها المتزايد، وارتفاع حدّة الخطاب السياسيّ المقسّم على حساب الخطاب الوطنيّ الجامع، وانتشار الآفات الهدّامة إنّما تستهدف القيم الروحية والأخلاقيّة والثقافية التي قام عليها لبنان. فلو أصغى المعنيّون الى نداء الضمير الداعي حكماً الى الحوار بتجرّد وموضوعيّة، لتوصلوا الى الخير المشترك، وأفرجوا عن الاستحقاق الرئاسيّ المأسور. ولكانوا وضعوا البلاد على طريق الحلول من خلال انتظام مؤسساتها الدستوريّة. ونظراً لتداعيات الفراغ الرئاسيّ الخطيرة نرى العالم يتحاور بشأنه وينشغل به، بينما نرى في المقابل اللبنانيّين غافلين أو مغفلين عن المبادرة الى الحوار اضطلاعًا بمسؤوليّتهم التاريخيّة في إنقاذ بلدهم.
6. إلا انّنا، ونحن أبناء الرجاء، لا نيأس، بل يتعزز أملنا بقدر ما تشهد البلاد من مبادرات حوارية منطلقها الإيمان بالله وبلبنان، ووسائلها التجرد والموضوعيّة، وآلياتها التواصل والانفتاح. إنّ لقاء اليوم الحواريّ التشاوريّ، يفتح نافذة في جدار الحوار لكونه لقاءً ثقافيًّا مطبوعًا بروحانيّة المسيحيّة والاسلام الداعية الى اكمال شراكتنا الإنسانيّة ومسيرتنا الحضارية المشتركة. إننا في كل لقاء نكتشف عطشنا الى الغنى المتبادل بتعميق معرفة بعضنا البعض، ونكتشف حجم المساحة المشتركة بيننا، وتوقنا الصادق الى إكمال هذه المسيرة الوطنيّة الفريدة على قواعد الأخوّة والعيش معاً بعدالة واحترام وسلام. وإنّا بذلك نصون الهوية اللبنانية ورسالة لبنان ودوره المحتضن لقاء الحضارات والحوار الإنسانيّ الواسع. واذا كانت أصوات الحروب تطغى أحياناً على الحوار وعلى أصوات السلام فان الغلبة في النهاية تبقى لمنطق الحوار والمصالحة والسلام. ان تاریخ البشر بالتجارب المريرة القاسية، التي تنتهي بغلبة إرادة الخير والحوار على إرادة التفرقة والصراع. في لبنان لم يكن لنا أن ننعم بأجواء السلام لولا الحوار، ولم يكن علينا أن نعاني ونتراجع ونتدهور لولا انقطاع هذا الحوار. من أجل هذا التلازم الجوهري بين هوية لبنان والحوار نتطلع الى أن تتحول ثقافة الحوار وعيش ثمارها نهج الحياة المشتركة بين اللبنانيين، ينشّأ عليها شعبنا وأجيالنا الطالعة، وتتبناها السلطات الرسمية، وتوفر لها فرص التحقيق.
7. وفيما نجدد شكرنا لمنظمي هذا اللقاء الحواريّ الوطنيّ، نجدّد الترحيب بكم في هذا الكرسيّ البطريركيّ الداعي دومًا الى الحوار واللقاء، والشاهد على وجود المسيحيّين وعلى أصالتهم وتجذّرهم في لبنان والشرق، وعلى دورهم في إحياء النهضة العربيّة وفي عيش شهادة الأخوّة ورسالة السلام. ونرجو لهذا اللقاء النجاح في ما يتوق إليه.
عشتم! وعاش لبنان!
* * *