هُمْ ثَلاثَةُ إِخْوَةٍ مَوارِنَة: كانَ فْرَنْسِيس، الأَكْبَرُ بَيْنَهُم، تَاجِرَ حَرِير، مَيْسُورًا، بِعُمْرِ السَبْعِينَ سَنَة، يُساعِدُهُ أَخُوهُ الأَصْغَرُ رَفَائيل؛ وكانَ عَبْدُ المُعْطِي مُعَلِّمًا في مَدْرَسَةِ الآباءِ الفْرَنْسِيسِيِّينَ الرَعَوِيَّة، ومِمَّا كانَ يَقُولُهُ لِتَلاميذِهِ: "قُولُوا مَعِي يا أَوْلادِي: إِمْنَحْنَا يا رَبُّ النِعْمَةَ لِنَمُوتَ مِنْ أَجْلِكَ. إِنَّ عَذابَ الاسْتِشْهَادِ قَصِيرُ الأَجَل، وأَمَّا النَعيمُ فَإِنَّهُ أَبَدِيّ". كانَ فْرَنْسِيسُ وعَبْدُ المُعْطِي مُتَزَوِّجَينِ ورُزِقا أَوْلادًا، بَيْنَمَا رَفائيلُ كانَ أَعْزَب. لَدَى صُدُورِ قَرارٍ مِنْ والي الشامِ بِإِبادَةِ المَسِيحِيِّينَ في دِمَشْق، بِمُوافَقَةِ مُفْتي المَدِينَة، والحُكُومَةِ المَرْكَزِيَّةِ في القُسْطَنْطينِيَّة، وَقَفَ الأَمِيرُ عَبْدُ القَادِرِ الجَزائِريُّ المَنْفِيُّ في دِمَشْق، وقاوَمَ مَقاصِدَ الوالي والمُفْتِي أَشَدَّ المُقَاوَمَة. فَالتَجَأَ الإِخْوَةُ الثَلاثَةُ مَعَ تَلامِذَتِهِم إِلَى دَيْرِ الرُهْبانِ الفْرَنْسِيسِيِّينَ طَلَبًا لِلحِمَايَة. كانَ الإِخْوَةُ مَعْرُوفِينَ بِتَقْواهُمْ وَوَفْرَةِ غِناهُم وكَرَمِ أَخْلاقِهِم وحُسْنِ مُعَامَلَتِهِم وعَطْفِهِم عَلَى الفُقَراءِ والمُحْتاجِين. ولَمَّا أَضْرَمَ المُسْلِمُونَ النارَ في حَيِّ المَسِيحِيِّين، دَخَلَ اللاجِئُونَ مَعَ الرُهْبانِ إِلَى الكَنِيسَةِ فَصَلَّوا واعْتَرَفُوا وتَنَاوَلُوا. وظَلَّ فْرَنْسِيسُ وَحْدَهُ في الكَنِيسَة، جَاثِيًا أَمامَ تِمْثالِ الأُمِّ الحَزينَة، يُصَلِّي، رابِطَ الجَأْش. وبَعْدَ نِصْفِ الليلِ دَخَلَ الدَيْرَ عَنْوَةً، جُمْهُورٌ مِنَ الرُعَاع، مُدَجَّجِينَ بِالسِلاح. فَذُعِرَ اللاجِئُونَ ولاذَ بَعْضُهُم بِالفَرار، واخْتَبَأَ البَعْض. وهَرَعَ البَاقُونَ إِلَى الكَنِيسَةِ لِيَحْتَمُوا بِهَا. فَأَخَذَ أُولَئِكَ الرُعَاعُ يَصْرُخُون: "أَيْنَ فْرَنْسِيسُ مَسَابِكِي؟ إِنَّنَا نَطْلُبُ فْرَنْسِيس". فَدَنَا فْرَنْسِيسُ مِنْهُم، غَيْرَ هَيَّاب، قائِلًا لَهُم: "أَنَا فْرَنْسِيسُ مَسَابْكِي، مَاذا تَطْلُبُون؟" فَأَجَابُوهُ: "جِئْنَا نُنْقِذُكَ وذَوِيكَ بِشَرْطِ أَنْ تَجْحَدُوا الدِينَ المَسِيحِيّ، وتَعْتَنِقُوا الإِسْلام، وإِلَّا فَإِنَّكُم تَهْلِكُونَ جَمِيعُكُم". فَأَجَابَهُم فْرَنْسِيس: "إِنَّنا لَمَسِيحِيُّونَ وعَلَى دِينِ المَسِيحِ نَمُوت. إِنَّنَا نَحْنُ مَعْشَرَ المَسِيحِيِّينَ لا نَخَافُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الجَسَد، كَمَا قالَ الرَبُّ يَسُوع". ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَخَوَيهِ وقَالَ لَهُمَا: "تَشَجَّعَا واثْبُتَا في الإِيمان، لأَنَّ إِكْلِيلَ الظَفَرِ مُعَدٌّ في السَماءِ لِمَنْ يَثْبُتُ إِلَى المُنْتَهَى". فَأَعْلَنَا، فَوْرًا، إِيمانَهُمَا بِالرَبِّ يَسُوعَ بِهَذِهِ الكَلِمَات: "إِنَّنَا مَسِيحِيُّونَ ونُريدُ أَنْ نَحْيَا ونَمُوتَ مَسِيحِيِّين". فَانْهَالُوا عَلَيْهِم بِالضَرْبِ بِعِصِيِّهِم وخَناجِرِهِم وفُؤُوسِهِم، حَتَّى أَسْلَمُوا أَرْواحَهُمُ الطاهِرَةَ بِيَدِ الله، مُؤْثِرِينَ المَوْتَ عَلَى الكُفْر. فَنَالُوا إِكْلِيلَ الشَهَادَة، وجَادُوا بِحَياتِهِم لأَجْلِ إِيمانِهِمبِالمَسِيح، في دِمَشْق، في اليَوْمِ العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ تَمُّوزَ سَنَةَ 1860. كانَ أَوَّلَ مَنْ قَبَضُوا عَلَيهِ الأَبُ الرَئيسُ مَانُوِيل، الذِي بَادَرَهُم بِالقَوْل: "تَعَالَوا أَدُلُّكُمْ إِلَى كَنْزٍ في الكَنيسَة". وصَعِدَ إِلَى المَذْبَح، فَأَضاءَ شَمْعَتَين، وفَتَحَ بَيْتَ القُرْبانِ الأَقْدَس، وتَنَاوَلَ مُقَدَّسَاتِهِ صَوْنًا لَهَا مِنَ الإِهانَة. ثُمَّ قال: "هَذا هُوَ المَخْبَأُ! لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ غَيْرُهُ!". فَقَتَلُوهُ لِلْحَال. ثُمَّ قَتَلُوا ثَمَانِيَةً مِنْ رُهْبانِ الدَيْر.
لَقَدْ مَاتُوا مَوْتَ الأَبْطالِ فَكانُوا مِثالًا سامِيًا لِلشَجَاعَةِ كَمَا كانُوا في حَيَاتِهِم مِرْآةً جَلِيَّةً لِلْفَضِيلَة. أَعْلَنَ السَعِيدُ الذِكْرِ البَابَا بِيُّوسُ الحادِي عَشَر (1922-1939) تَطْوِيبَ الإِخْوَةِ الثَلاثَةِ مَعَ الرُهْبانِ الثَمَانِيَةِ في اليَومِ العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ تِشْرِينَ الأَوَّلِ سَنَةَ 1926 بِمَسْعَى الطَيِّبِ الأَثَرِ المِطْرانِ بْشَارَة الشَماليّ، رَئِيسِ أَساقِفَةِ دِمَشْقَ المارونيّ. وقَدْ أُدْرِجَتْ صَلاةٌ خاصَّةٌ بِهِم في كِتابِ القُدَّاسِ المارونيِّ (2005) طَلَبًا لِشَفاعَتِهِم، وتُعَيِّدُ لَهُمُ الكَنِيسَةُ المارونِيَّةُ في العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ تَمُّوز، وَهُوَ ذِكْرَى يَوْمِ اسْتِشْهَادِهِم. صَلاتُهُم مَعَنَا. آمين.