أَبْصَرَتْ عَيْنَا رَفْقَا النُورَ في حِمْلايا، إِحْدَى قُرَى المَتْنِ الشَمَاليّ، بِالقُرْبِ مِنْ بِكْفَيَّا في جَبَلِ لُبنان، في 92 حُزَيران، يَوْمَ عِيدِ القِدِّيسَينِ بُطْرُسَ وبُولُس، سَنَةَ 1832. والِدُهَا هُوَ مراد صابِر الشُبُق الرَيِّس، ووالِدَتُهَا هِيَ رَفْقَا الجمَيِّل مِنْ بِكْفَيَّا، وكانَتْ وَحِيدَةً لِوالِدَيْهَا. نَالَتْ سِرَّي العِمَادِ والتَثْبِيتِ بَعْدَ ثَمانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ وِلادَتِهَا، في 7 تَمُّوز سَنَةَ 1832، ودُعِيَتْ "بُطْرُسِيَّة". كانَتِ الطِفْلَةُ بُطْرُسِيَّةُ تُرافِقُ والِدَيْهَا إِلَى الكَنِيسَةِ لِلمُشَارَكَةِ في الاحتِفَالاتِ الطَقْسِيَّةِ والقَدادِيسِ والصَلَواتِ والزِيَّاحات. تُوُفِّيَت والدَتُهَا سَنَةَ 1839، وهِيَ ابْنَةُ سَبْعِ سَنَوات. عَانَتْ مِنَ اليُتْمِ والفَقْرِ والعَوَز، وحُرِمَتْ حَنَانَ أُمِّهَا وهِيَ طِفْلَة، ومَرَّتْ أَيَّامٌ صَعْبَةٌ عَلَى والِدِهَا، فَأَوْعَزَ إِلَيْهِ السَيِّدُ أَسْعَد البَدَوِيُّ وَهُوَ صَدِيقُهُ اللُبْنانيُّ الأَصْل، مِنْ بَلْدَةِ بْعَبْدَا، والمُقِيمُ في دِمَشْق، أَنْ يَصْطَحِبَهَا مَعَهُ، لِتُسَاعِدَ زَوْجَتَهُ هِيلانَةَ في الأَعْمَالِ المَنْزِلِيَّة، ومَكَثَتْ هُناكَ أَرْبَعَ سَنَواتٍ (1842–1846)، ثُمَّ عادَتْ إِلَى لُبْنَان، لِتَجِدَ أَنَّ والِدَهَا قَدْ تَزَوَّجَ في غِيَابِهَا بِامْرَأَةٍ تُدْعَى كَفَى، ورُزِقَ مِنْهَا ابْنَتَيْن: مَرْيَم وشِمُوني.

وفي سِنِّ الحادِي والعِشْرِينَ (1853) قَصَدَتْ دَيْرَ سَيِّدَةِ النَجاةِ في بِكْفَيَّا، لِجَمْعِيَّةِ المَرْيَمات، التي أَسَّسَها الخوري يُوسُفُ الجميِّل مَعَ الأَب رِيمون إسْتيف (سليمان) اليَسوعيّ، سَنَة 1853، وكانَ مُرْشِدًا لَهَا، بِهَدَفِ اعْتِناقِ الحياةِ الرُهْبانِيَّة. ولَدَى دُخُولِهَا كَنِيسَةَ الدَيْرِ شَعَرَتْ بِفَرَحٍ وسُرُورٍ لا وَصْفَ لَهُمَا. نَظَرَتْ إِلَى إِيقُونَةِ سَيِّدَةِ النَجَاةِ فَسَمِعَتْ صَوْتَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَكَرُّسِ لِلرَّبّ: "إِنَّكِ تَتَرَهَّبِين". وبَعْدَ ذَلِكَ رَفَضَتِ العَوْدَةَ إِلَى المَنْزِل، عِنْدَمَا حَضَرَ والِدُهَا وزَوْجَتُهُ لِيُثْنِيَاهَا عَنْ عَزْمِهَا، قَالَتْ لِلأُخْت دُرُوثِيَا، مُعَلِّمَةِ المُبْتَدئات: "إِنِّي أُفَضِّلُ أَنْ تَأْخُذَني أُمِّي، ولا أَخْرُجَ مِنَ الدَيْر".

إتَّشَحَتْ بِثَوْبِ الابْتِداءِ في 9 شُبَاطَ سَنَةَ 1855، وبَعْدَ فَتْرَةِ الابْتِداءِ نَذَرَتْ نُذُورَهَا الرُهْبَانِيَّةَ الأُولَى في دَيْرِ بِكْفَيَّا في 10 شُبَاطَ سَنَةَ 1856. سَنَةَ 1858 تَوَجَّهَتْ مَعِ الأُخْتِ مَرْيَمَ الجْمَيِّلِ إِلَى إِكْلِيرِيكِيَّةِ غَزِير، وعُهِدَ إِلَيْهَا القِيَامُ بِخِدْمَةِ المَطْبَخ. وكانَ في عِدادِ الإِكْلِيرِيكِيِّين، البَطْرِيَرْكُ الياس الحْوَيِّك (1899-1931)، وكانَتْ تَسْتَغِلُّ أَوْقاتَ الفَراغِ لِتَتَلَقَّنَ اللُغَةَ العَرَبِيَّةَ والخَطَّ والحِسَاب.

في 27 شُبَاطَ سَنَةَ 1860 جَدَّدَتْ نُذُورَهَا بَعْدَ الرِيَاضَة، وأُرْسِلَتْ مَعَ بَعْضِ آباءِ الرَهْبَانِيَّةِ اليَسُوعِيَّةِ إِلَى دَيْرِ القَمَرِ لِلقِيَامِ بِأَعْمَالِ رِسَالَةٍ رُوحِيَّة، ورَوَتْ ما عَاشَتْهُ هُنَاك: "وقَدْ حَدَثَتْ في هَذِهِ السَنَةِ المَعَارِكُ والمَذابِحُ الدامِيَةُ المَشْهُورَة. وفي أَحَدِ الأَيَّام، بَيْنَمَا كُنْتُ مارَّةً في البَلْدَةِ المَذْكُورَة، رَأَيْتُ بَعْضًا مِنَ الجُنُودِ يُطَارِدُونَ وَلَدًا صَغِيرًا، بُغْيَةَ أَنْ يُمْسِكُوهُ. ولَمَّا رَآني هَرَعَ مُلْتَجِئًا إِلَيّ، فَعَطَفْتُ عَلَيهِ بِرِدائِي، ونَجَّيْتُهُ مِنْ قَسَاوَتِهِمْ".

بَعْدَ سَنَةٍ في دَيْرِ القَمَر، عادَتْ رَفْقَا إِلَى غَزِير، وبَقِيَتْ هُنَاكَ مُدَّةَ سَنَتَيْن. سَنَةَ 1863 أَرْسَلَتْهَا الطَاعَةُ الرُهْبَانِيَّةُ إِلَى مَدْرَسَةِ جَمْعِيَّتِهَا في جُبَيل. فَأَقَامَتْ مُدَّةَ سَنَةٍ في هَذِهِ المَدْرَسَة، تُعَلِّمُ البَنَات، بِرُفْقَةِ الأُخْتِ بَرْبَارَةَ خَلِيل مِنْ بَيْتَ شَبَاب. فَكَانَتْ مِثَالَ الراهِبَةِ الفاضِلَةِ التَقِيَّة. طارَتْ شُهْرَةُ رَفْقَا في بِلادِ جُبَيْل، فَقَصَدَهَا الوَجِيهُ والمُحْسِنُ الكَبِيرُ أَنْطُون عِيسَى (1808-1890)، وطَلَبَهَا مِنْ رُؤَسَائِهَا لِكَيْ تَذْهَبَ إِلَى بَلْدَتِهِ مْعَاد لِتَعْلِيمِ البَنَاتِ وتَرْبِيَتِهِنَّ. ولَمَّا حَصَلَ لَهَا عَلَى إِذْنٍ مِنَ البَطْرِيَرْكِ المارُونيِّ آنَذَاكَ بُولُس مَسْعَد (1806-1890)، تَوَجَّهَتْ رَفْقَا مَعَ الأُخْتِ أَغَاتَا إِلَى مْعَاد سَنَةَ 1864، لِتَعْلِيمِ البَنَاتِ في المَدْرَسَةِ التي أَنْشَأَهَا أَنْطُون عِيسَى عَلَى اسْمِ شَفِيعِهِ القِدِّيسِ أَنْطُونْيُوسَ الكَبِير.

أَقَامَتْ رَفْقَا ورَفِيقَتُهَا في بَيْتِ أَنْطُون عِيسَى، ولَمْ تَكُنْ تَزُورُ إِلَّا المَرْضَى مِنْ أَهَالي تِلْمِيذاتِهَا. كانَتْ تَتَنَقَّلُ بَيْنَ الكَنِيسَةِ ومَحَلِّ إِقَامَتِهَا والمَدْرَسَةِ فَقَط، مُحْتَشِمَةً دائِمًا، هادِئَة، لَطِيفَة، تَبْتَسِمُ ابْتِسَامَةَ الوَداعَة. عَرَفَ فِيهَا أَهْلُ مْعَاد راهِبَةً تَتَمَتَّعُ بِكُلِّ سِمَاتِ الكَمَال: الصَمْتِ والوَقَارِ والهُدُوءِ والوَداعَةِ والمَحَبَّةِ والغَيْرَة. وهَذَا ما أَكْسَبَهَا مَحَبَّةَ تِلْمِيذاتِهَا وثِقَتَهُنَّ، حَتَّى إِنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ يَرْغَبْنَ أَنْ تَتْرُكَهُنَّ، ويَنْتَظِرْنَ بِفَارِغِ الصَبْرِ بُزُوغَ الفَجْرِ لِلقَائهَا مِنْ جَدِيد. أَقَامَتْ رَفْقَا في مْعَاد زُهَاءَ سَبْعِ سِنَوات (1864-1871)، وكانَتْ شِبْهَ مُنْقَطِعَةٍ عَنْ جَمْعِيَّتِهَا، لا تَلْتَقِي أَخَواتِهَا الراهِبَاتِ إِلَّا خِلالَ الرِيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ السَنَوِيَّة، التي كانَتْ تَجْمَعُهُنَّ في دَيْرِ سَيِّدَةِ النَجَاةِ في بِكْفَيَّا.

ولَمَّا عَلِمَتْ رَفْقَا بِقَرارِ حَلِّ الجَمْعِيَّة، حارَتْ في أَمْرِهَا، فَوَلَجَتْ كَنِيسَةَ القِدِّيسِ جِرْجِسَ في مْعَاد وبَدَأَتْ تُصَلِّي بَاكِيَةً مُتَنَهِّدَة، طالِبَةً مِنَ اللهِ أَنْ يَهْدِيَهَا طَرِيقًا أَمِينًا، ومِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهَا دَخَلَتْ في حَالَةِ اسْتِغْراقٍ فَشَعَرَتْ بِيَدٍ تَمَسُّهَا في كَتِفِهَا، وسَمِعَتْ صَوْتًا يَقُولُ لَهَا: سَتَتَرَهَّبِين! ولَيْلَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ رَأَتْ في الحُلْمِ ثَلاثَةَ رِجَال: راهِبًا ذا لِحْيَةٍ بَيْضَاءَ وبِيَدِهِ عَكَّاز، وجُنْدِيًّا بِأَثْوابِ الجُنْدِيَّة، وشَيْخًا مُسِنًّا. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا الراهِبُ ولَكَزَهَا بِعَكَّازِهِ قائِلًا لَهَا: "تَرَهَّبي في الرَهْبَانِيَّةِ اللُبْنَانِيَّة". فَأَفَاقَتْ مِنْ رُقَادِهَا مُبْتَهِجَةً مَسْرُورَةً، وفي الصَبَاحِ قَصَدَتْ أَنْطُون عِيسَى وقَصَّتْ عَلَيْهِ الحُلْم. قَال: "إِنَّ الراهِبَ هُوَ القِدِّيسُ أَنْطُونْيُوس-قِزْحَيَّا، والجُنْدِيُّ هُوَ القِدِّيسُ جِرْجِس، المُشَيَّدَةُ عَلَى اسْمِهِ كَنِيسَةُ مْعَاد". قَالَتْ لَهُ: "إِنِّي أُرِيدُ الذَهَابَ إِلَى دَيْرِ مار سِمْعَانَ القَرْن". أَجاب: كَمِّلِي هَذِهِ السَنَةَ عِنْدَنَا، وفي السَنَةِ القَادِمَةِ تَذْهَبِين". أَجَابَتْهُ: "إِنَّ اللهَ أَلْهَمَنِي الذَهَابَ في الحال". فَدَفَعَ إِلَيْهَا راتِبَ التَرَهُّب، وسَلَّمَهَا كِتَابًا إِلَى المِطران يُوسُف فْرَيْفِر، فَكَتَبَ إِلَى الرَئِيسِ العامِّ الأَبِ أَفْرام جَعْجَعْ (1862-1875) البْشِرَّاوِيِّ بِشَأْنِهَا. ومِنْ جُمْلَةِ ما قَالَهُ هَذِهِ العِبَارَة: "واصِلَةٌ إِلَيْكَ هَذِهِ النَعْجَة".

هَكَذَا، انْتَقَلَتْ إِلَى دَيْرِ مار سِمعانَ القَرْن - أَيْطُو، في شَمَالِيِّ لُبنان، ولَدَى دُخُولِهَا الكَنِيسَةَ نَظَرَتْ إِلَى الصُورَةِ فَأَيْقَنَتْ أَنَّ الراهِبَ الثَالِثَ الّذي شَاهَدَتْهُ في الحُلْمِ كانَ مار سِمْعانَ العَمُودِيّ. إتَّشَحَتْ بِثَوْبِ الابْتِداءِ في 12 تَمُّوز سَنَةَ 1871، ثُمَّ نَذَرَتْ نُذُورَهَا المُؤَبَّدَةَ في 25 آب سَنَةَ 1872، واتَّخَذَتْ لَهَا اسْمَ رَفْقَا تَيَمُّنًا بِاسْمِ والِدَتِهَا. وكانَتْ مِثالًا حَيًّا لأَخَواتِهَا الراهِبَاتِ في حِفْظِ القَوانِينِ والصَلَواتِ والتَقَشُّفِ والتَضْحِيَةِ والعَمَلِ الصَامِت. في أَحَدِ الوَرْدِيَّة، سَنَةَ 1885، دَخَلَتِ الكَنِيسَةَ وراحَتْ تُصَلِّي: "إِلَهِي لِمَاذا أَنْتَ مُتَبَاعِدٌ عَنِّي؟ لِمَاذا لا تَزُورُني بِمَرَضٍ أُظْهِرُ لَكَ بِهِ كَامِلَ مَحَبَّتي، وأُكَفِّرُ بِهِ عَنْ خَطَايايَ وخَطَايَا الآخَرِين"؟. إسْتَجَابَ الرَبُّ لَهَا لِلْحَال، وَبَدَأَتِ الأَوْجَاعُ المُؤْلِمَةُ في رَأْسِهَا، ثُمَّ امْتَدَّتْ إِلَى عَيْنَيهَا. بَعْدَ مُحَاوَلاتِ أَطِبَّاءَ عَدِيدِينَ دُونَ جَدْوَى، أَرْسَلَتْهَا الرَئِيسَةُ إِلَى بَيْرُوتَ لِلمُعَالَجَة، ولَدَى وُصُولِهَا إِلَى جُبَيْل، وَجَدَتِ الأَبَ إِسْطِفَان مَتَّى البِنْتَاعْلِيَّ في أُنْطُشِ الرَهْبَانِيَّةِ اللُبْنَانِيَّة، وإِذْ وَقَفَ عَلَى حَالِهَا قَالَ لَهَا: "في جُبَيْلَ الآنَ طَبِيبٌ أَميريكِيّ، أُعْرُضِي عَيْنَيْكِ عَلَيْهِ، لَعَلَّهُ يَشْفِيكِ، فَلَمْ تَرْفُضْ". ولَدَى إِجْرائِهِ عَمَلِيَّةً جِراحِيَّةً لَهَا، اقْتَلَعَ عَيْنَهَا اليُمْنَى بِرُمَّتِهَا، وَهِيَ صَابِرَة، صَامِتَة، مُصَلِّيَة، فَرِحَةٌ وُمُرَدِّدَة: "مَعَ آلامِ المَسِيح، سَلِمَتْ يَدَاكَ، أَلله يآجْرَك". واللهُ أَعْلَمُ كَمْ قَاسَتْهُ مِنْ أَلَم، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ تَتَأَوَّهْ ولَمْ تَضْطَرِبْ، وما لَبِثَ أَنْ تَحَوَّلَ إِلَى عَيْنِهَا الثَانيَة، وحَكَمَ الأَطِبَّاءُ بِأَنْ لا مَنْفَعَةَ لَهَا بِالعِلاج، فَعَادَتْ إِلَى الدَيْرِ وَهِيَ تَتَوَجَّع. لَقَدْ طَلَبَتْ رَفْقَا الأَلَمَ لِتُشارِكَ المَصْلُوبَ يَسُوعَ المسيحَ آلامَهُ الفِدائِيَّة، فَتَتَّحِدَ بِمَوتِهِ وقِيامَتِهِ.

سَنَةَ 1897، أَي بَعْدَ مُرُورِ سِتٍّ وعِشْرِينَ سَنَةً في دَيْرِ مار سِمْعَان القَرْن-أَيْطُو، إِنْتَقَلَتْ إِلَى دَيْرِ مار يُوسُفَ الضَهْر-جْرَبْتَا، في مِنْطَقَةِ البَتْرُون، بِرِئاسَةِ الأُمِّ أُورْسُلَا ضُومِط المْعَادِيَّةِ وخَمْسُ راهِباتٍ مَعَهَا. وفي سَنَةِ 1899، إِنْطَفَأَ النُورُ نِهَائِيًّا في عَيْنِهَا اليُسْرَى، لِتُضْحِيَ عَمْيَاء. سَنَةَ 1906 بَدَأَ الانْحِلالُ في جَسَدِهَا، فَتَفَكَّكَتْ عِظَامُهَا عَظْمَةً عَظْمَةً حَتَّى أَضْحَتْ مُخَلَّعَة، لا تَقْوَى عَلَى الحِراك، وخَرَجَ عَظْمُ كَتِفِهَا وانْغَرَسَ في عُنُقِهَا، فَكَانَتْ تَقُول: "مَعَ جُرْحِ كَتِفِكَ يا يَسُوع"، ولَمْ يَبْقَ عُضْوٌ صَحِيحٌ في جِسْمِهَا غَيْرُ مِخْلَعَي يَدَيْهَا فَكَانَتْ تَحُوكُ جَوارِبَ بِالصَنَّارَة، وَهِيَ تَشْكُرُ اللهَ لإِبْقَائِهِ يَدَيْهَا سَلِيمَتَين، لِتَشْتَغِلَ بِهِمَا هَرَبًا مِنَ البَطَالَة، وعَقْلَهَا سَلِيمًا يُرَنِّمُ ويُسَبِّحُ الله. صَبَاحَ عِيدِ القُرْبانِ الأَقْدَس، تَجَمَّعَتْ كُلُّ الراهِبَاتِ في الكَنِيسَةِ لِلاحْتِفَالِ بِالعِيد، ورَفْقَا مُفَكَّكَةٌ عَلَى سَرِيرِ أَوْجَاعِهَا، وبَدَأَ الكَاهِنُ القُدَّاس، فَرَأَيْنَ الأُخْتَ رَفْقَا داخِلَةً الكَنِيسَةَ زَحْفًا، فَأَدْهَشَهُنَّ مَرْآهَا، وأَبْكَاهُنَّ تَأَثُّرًا لَهَا وإِشْفَاقًا عَلَيْهَا؛ وهِيَ قَالَتْ لِرَئِيسَتِهَا: "شَعَرْتُ بَغْتَةً بِأَنَّ قُوَّةً غَيْرَ مَنْظُورَةٍ تَرْفَعُني ثُمَّ تُنْزِلُني عَنْ سَرِيرِي، وتَدْفَعُ بي إِلَى الأَمَام، فَرُحْتُ أَزْحَفُ إِلَى بَيْتِهِ، وبَعْدَئِذٍ فارَقَتْني تِلْكَ القُوَّة".

بَقِيَتْ رَفْقَا عَلَى هَذِهِ الحالِ مُدَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مُتَحَمِّلَةً أَوْجَاعَهَا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَتْ في 23 آذارَ سَنَةَ 1914، يَومَ الاثْنَينِ مِنْ أُسْبُوعِ المُخَلَّعِ، في زَمَنِ الصَومِ الكَبير، وَدُفِنَتْ في مَقْبَرَةِ الدَيْر. أَشَعَّ النُورُ مِنْ قَبْرِهَا طَوالَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَالِيَة. كانَتِ الأُمُّ الرَئِيسَةُ أُورْسُلَا تُعاني مِنْ مَرَضٍ في حَلْقِهَا، فَأَتَتْ إِلَيْهَا الأُخْتُ رَفْقَا لَيْلًا، وقَرَعَتْ بَابَهَا، قائِلَةً لَهَا: "خُذي تُرابًا عَنْ قَبْرِ رَفْقَا وادْهَني بِهِ حَلْقَكِ تُشْفَي". فَكَانَتْ هَذِهِ أُولَى أَعَاجِيبِهَا. نَشَرَ الأَبُ أَنْطُونْيُوسُ شِبْلِي الراهِبُ اللُبْنانيُّ المارُونيُّ سِيرَةَ رَفْقَا سَنَةَ 1948، نَقْلًا عَنْ رِوايَةِ الأُمِّ أُورْسُلَا ضُومِط. إِفْتُتِحَ مَلَفُّ دَعْوَى تَطْوِيبِهَا بِتَارِيخِ 23 كانونَ الأَوَّلِ سَنَةَ 1925، مَعَ دَعْوَى مار شَرْبِل، ومار نِعمة الله الحردينيّ، بِسَعْيِ الأبَّاتي إغناطْيُوس داغِر التَنُّوريّ، رَئيسِ عامّ الرَهبَانيَّةِ اللُبْنانِيَّةِ المارُونِيَّة حِينَها، والشُرُوعُ بِالتَحْقِيقِ في شُهْرَةِ قَداسَتِهَا في 16 أَيَّار سَنَةَ 1926؛ في 10 تَمُّوز سَنَةَ 1927 نُقِلَ رُفَاتُهَا إِلَى قَبْرٍ جَدِيدٍ في زاوِيَةِ الدَيْر. وفي 2 أيَّار سَنَةَ 1928 حُرِّرَ مَحْضَرٌ بِسِتِّينَ أُعْجُوبَةً جَرَتْ بِشَفَاعَتِهَا؛ وفي 1 تمُّوز سَنَةَ 1968 وَقَّعَ قَداسَةُ البابا بُولُسُ السَادِسُ (1963-1978) افْتِتَاحَ الدَعْوَى.

أَعلَنَها قَداسَةُ البَابَا يُوحَنَّا بُولُسُ الثاني (1978-2005) مُكَرَّمَةً في 11 شُبَاطَ سَنَةَ 1982، ثُمَّ طُوبَاوِيَّةً في 17 تِشْرِينَ الثاني سَنَةَ 1985، ومِمَّا قَالَهُ في هَذَا النَهَار: "أَيَّتُهَا الأُخْتُ العَجِيبَةُ رَفْقَا، ألصُورَةُ الوَضِيعَةُ والحَقِيقِيَّةُ لِلمَسِيحِ المَصْلُوب، نَحْنُ نَشْكُرُكِ. ولَوْ أَنَّكِ لَمْ تَزِيدِي شَيْئًا عَلَى غِنَى فِداءِ الرَبِّ يَسُوعَ الوَحِيد، لَكِنَّكِ تَرَكْتِ لَنَا الشَهَادَةَ المُؤَثِّرَةَ عَنِ المُشارَكَةِ السِرِّيَّةِ والمُؤْلِمَةِ في اسْتِحْقَاقِ ثِمَارِ هَذَا الفِداء…". وفي سَنَةِ 2000 لِليُوبِيلِ القُرْبانيِّ أَعْلَنَهَا البابا قُدْوَةً ومِثَالًا في عِبَادَة القُرْبانِ الأَقْدَس، ثُمَّ رَفَعَهَا قِدِّيسَةً عَلَى مَذابِحِ الكَنِيسَةِ الجامِعَةِ في 10 حُزَيْرانَ سَنَةَ 2001، وقالَ قَداسَتُهُ: "فَلْيَجِدِ المَرْضَى، وَالمَنْكُوبُون، ولاجِئُو الحَرْبِ وَكُلُّ ضَحَايَا الحِقْد، البارِحَةَ كَمَا اليَوم، في القِدِّيسَةِ رَفْقَا، شَرِيكَةً لَهُمْ في الطَرِيق، لِكَيمَا، بِشَفَاعَتِهَا، يُتَابِعُوا مَسِيرَتَهُمْ في التَفْتِيش، رَغْمَ لَيْلِ الأَفْكار، عَنِ الرَجَاءِ أَيْضًا لأَجْلِ بِنَاءِ السَلام". صَلاتُهَا مَعَنا. آمين.