ولماّ تسلّم الأسقف تيودوريتوس أبرشيّة قورش سنة 423، صرّح بأنّ مارون "تفانى في غرس هذا البستان لله، فنوّر ناحية قورش". وتفسِّر شهرة قداسة مار مارون وأسلوب عيشه النسكي، والتزام تلامذته بالنهج التوحدي الزهدي وإسهامهم في بلورة العقائد المسيحية سبب قيام دير على اسمه في منطقة أفاميا سنة 452، أي مباشرة بعد المجمع الخلقيدوني، بحسب ما يؤكّد المؤرّخ العربي أبو الفداء، إذ يقول ما حرفيّته: "في السنة الثالثة من ملكه، بنى الأمبراطور مرقيانس دير مار مارون في حمص"(6) . وكان المؤرّخ بروكوب قد أفاد إنّ الامبراطور يوستينيانوس الكبير (528-565) في غمرة ورشة منشآته قد "رمّم أسوار دير مار مارون الذي في ضواحي أفامية"(7) .
تقدّم دير ما مارون على سائر الأديرة في سوريا الثانية، وتبّوأ المركز الأوّل بينها زهاء خمسة قرون، وغدا مهد الكنيسة المارونيّة. واشتهر رهبانه بالدفاع المستميت حتى الاستشهاد عن عقيدة المجمع الخلقيدوني في القرنين الخامس والسادس كما تؤكّد المصادر التاريخيّة واللاهوتيّة. ولماّ اشتدَّ الجدل العقائدي أدّى إلى مأساة ذهب ضحيّتها 350 راهباً من رهبان دير مار مارون بالقرب من شيزر سنة 517 في عهد البطريرك ساويروس اللاخلقيدوني. تعيّد الكنيسة المارونيّة هذه الذكرى في كلّ سنة في الحادي والثلاثين من تموز. وبالرغم من المضايقات والانقسامات، فقد أعطى رهبان مارون طابعاً كنسيّاً مسكونيّاً للصراع العقائدي بحسب ما تُظهر الرسائل التي توجّهوا بها الى الكرسي الرسولي وخصوصاً الى البابا هرمزدا(8)(Hormisdas) . وقد نجحوا والشعب الذي تحلّق حولهم في تثبيت العقيدة الخلقيدونيّة في أفاميا وكامل منطقة سوريا الثانية. وتبرز الوثائق الكنسيّة والتاريخيّة حضورهم وتفاعلهم مع مختلف الجماعات المسيحية التي تنتمي الى انطاكيا: الملكيين واليعاقبة والنساطرة وذلك من القرن السابع حتى القرن الحادي عشر. وساندهم الأمبراطور هرقل (610-641) إثر انتصاره على الفرس سنة 628(9) ، واعترف بهم الحكّام العرب لاسيما معاوية(10) . وتذكر الوثائق "جماعة دير أو بيت مارون"، مما يعني أن الدير قد انخرط في هيكليّة كنسيّة أنطاكيّة، وترأسه أساقفة في القرن السابع، وتحلّق حوله شعبٌ، أي رعيّة ومؤمنون، شكّلوا التربة الصالحة لقيام البطريركيّة المارونيّة.
ولا تقلّل صعوبة الاستدلال الى موقع الدير الجغرافي شيئاً من أهميّته التاريخيّة(11) حتّى تدميره وتخريبه في القرن العاشر بحسب شهادة المسعودي "وكان له [لمار مارون] دير عظيم يعرف به شرقيّ حماة وشيزر ذو بنيان عظيم. حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيها الرهبان. وكان فيه من آلات الذهب والفضّة والجوهر شيىءٌ عظيم. فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان. وهو يقرب من نهر الأرنط نهر حمص وانطاكية." (12)
المراجع
6-أبو الفداء، المختصر في تاريخ البشر، منشورات دار الكتاب اللبناني، ص 81.
<br>
7-Procopius, De aedificiis, 1888, VIII, p. 328
<br>
8-Mansi, t. VIII, col. 452-429. Réponse t. VIII, col 1023-1030
Harald Suermann, Histoire des origines de l’Eglise maronite, PUSEK, 2010, p. 109- 121.
بولس نعمان، المارونية لاهوت وحياة، الكسليك : جامعة الروح القدس، 1992 الملاحق 159-172.
<br>
9-مار ميخائيل السرياني الكبير، الناشر غريغوريوس يوحنا ابراهيم، حلب، دار ماردين، 1996، ص 302:
" فغضب هرقل وكتب الى كافة أنحاء المملكة يقول: كل من لا يقبل مجمع خلقيدونية يُقطع أنفه وآذانه وينهب بيته. واستمرّ هذا الاضطهاد مدة غير يسيرة، فقبل العديد من الرهبان المجمع. وظهر غش رهبان جماعة مارون والمنبجيين والحمصيين والمناطق الجنوبيّة. وهكذا قبل معظمهم المجمع واغتصبوا الكنائس والأديرة، ولم يسمح هرقل لأحد من الارثوذكس بزيارته، ولم يقبل شكواهم بصدد اغتصاب كنائسهم. وان الله إله النقمة الذي وحده له سلطان على كل شيء، وهو الذى يغير الملك كما يشاء ويعطيه لمن يشاء، يقيم عليه الضعفاء، اذ رأى خيانة الروم الذين كانوا ينهبون كنائسنا وأديرتنا كلما اشتدّ ساعدهم في الحكم، ويقاضوننا بلا رحمة، جاء من الجنوب بأبناء اسماعيل، لكي يكون لنا الخلاص من أيدي الروم بواسطتهم. أما الكنائس التي كنا قد فقدناها باغتصاب الخلقيدونيين اياها،
<br>
10-جدل بين اليعاقبة والموارنة امام معاوية، راجع المشرق 2 (1899)، ص 267.
"وفي سنة 970 وهي 17 من ملك قسطنت (1 في شهر حزيران ... أتى أسقفا اليعاقبة تاودروس (2 وسبُوخت (3 الى دمشق وضعا جدالاً امام معاوية مع أصحاب مار مارون في أمر الايمان. ولما غُلبا أمر معاوية أن يدفعا لهُ عشرين ألف دينار ووصَّاهما ان يبقيا في الهدوّ. وجرت العادة مذ ذاك لاساقفة اليعاقبة ان يدفعوا كل سنة مثل هذا المبلغ لمعاوية لئلاَّ يكفَّ عنهم يدَهُ فيتعقَّبهم ابناء الكنيسة 4"،
Andrew Palmer, Une chronique syriaque contemporaine de la conquête arabe, in La Syrie de Byzance à l’Islam VIIe- VIIIe siècles, publiés par Pierre CANIVET et Jean-Paul COQUAIS, p. 31- 46.
<br>
11-Harald Suermann, “Die Lage des Klosters Mar Maron”, dans: PdO 13, 1986, 197-223.
<br>
12-المسعودي، كتاب التنبيه والاشراف، نشر دي كوجيه (de M. J. de Coeje)، ليدن، 1849، ص 153-154.