يشكّل الانفتاح سجيّة لدى الموارنة، فلا غروَ من أن يكون عنصراً من عناصر تكوين هويّتهم؛ يدفع إليه التمسّك بالحريّة، وحب الاكتشاف والمغامرة، والطموح إلى الحصول على عيش كريم ومراقٍ في شتّى المجالات والقطاعات. انطلقت بوادره في سياق مسيرتهم في ربوع سوريا الثانية، وفي أرجاء لبنان من شماله إلى جنوبه. ولعلّ الانتشار في آفاق العالم الواسع من أهمّ ثمار هذا الانفتاح. ولقد عرف هذا الانتشار موجات متلاحقة وسلك اتجاهات مختلفة. انطلقت الموجة الأولى بعد حوادث 1860 التي أبادت آلاف الموارنة في الجبل وهجّرت وشتَّتت الآخرين، ونهبت ودمَّرت قراهم. وعزَّزها ضيق الموارد في المتصرفيّة، فاتجهت نحو مصر ثمّ نحو الأميركتين. وتكثّفت الهجرة بعد الحرب العالميّة الأولى ومأساة الحصار والمرض والجوع والإبادة التي نتجت عنها وحملت الكثيرين إبّان عهد الانتداب الفرنسي على أن يؤموا أميركا وأستراليا، ومنهم من قصد بلدان أفريقيا. ولحقت موجة ثالثة بعد الحرب العالميّة الثانية في الاتجاهات نفسها. وتبعتها موجة رابعة إبّان الحروب التي عصفت بلبنان بين 1975 و1990، وقادت روّادها إلى كندا وأستراليا وبلدان أوروبا. وتلت موجة خامسة اختلط فيها اللبنانيون مللاً واتجاهات.
أثمرت جهود الموارنة في بلدان الانتشار وتسلّموا أعلى المراتب في شتّى الميادين في الحياة العامة كما في القطاع الخاص والمهن الحرّة، وانخرطوا في النسيج الاجتماعي حتى الانصهار في بلدان الاستقبال التي خدموها بكل أمانة وإخلاص، وعملوا على ازدهارها. وفاق عددهم أشواطاً عدد المقيمين، وانتشروا في القارّات كلّها فلم يخلُ بلدٌ منهم، وتضاعفت لديهم نواحي التعدديّة الثقافيّة حتى بلغت درجة مسكونيّة صريحة.
سعت الكنيسة إلى أن ترافقهم في جميع مراحل الانتشار، لكي تخفّف عنهم أعباء الهجرة ومتاعب السفر، وتسهّل عليهم سبل الاستقرار في البلدان الجديدة، وتؤمّن لهم وسائل التواصل مع أهل وأقارب افترقوا عنهم، وتنظّم صفوفهم بحسب عوائدهم وتقاليدهم وتراثهم وطقوسهم الدينيّة. واقتضى سدُّ هذه الحاجات التفاوضَ مع السلطات الكنسيّة الرومانيّة والمحليّة، والتواصل مع الحكومات والهيئات الدبلوماسيّة المختصّة. وهكذا تسنّى لها أن تعيّن لهم كهنة يتمّون شعائرهم الدينيّة، وأساقفة زوّاراً يتفقّدون أحوالهم، وموفدين يحثّونهم على الاحتفاظ بجنسيّتهم، أو السعي إلى اكتسابها. وبعد مضي ما يقارب المئة عام على بداية الانتشار، تأسّست الأبرشيّات تباعاً.
وشجَّعت الكنيسة المارونيّة السلطات اللبنانيّة على عقد مؤتمرات تجمع المغتربين لتوثيق العلاقات بإخوانهم المقيمين، والاستفادة من خبراتهم وطاقاتهم. وأحس المنتشرون بضرورة تنظيم صفوفهم، وتوثيق عرى الاتحاد فيما بينهم، فأسَّسوا النوادي والجمعيّات والمنتديات. وأنشأوا الاتحاد الماروني العام، وتمخّض عنه مؤتمران عالميان، عُقد الأوّل في المكسيك والثاني في نيويورك. وتجدر الإشارة إلى أنّ المنتشرين بادلوا وطنهم بالمودّة نفسها والإخلاص نفسه ووقفوا إلى جانبه وساندوه كلّ مرّة بدا المصير وكأنّه على المحكّ، ولاسيّما عند قيام الكيان سنة 1920، وعند صدور الدستور، وعند إعلان الاستقلال، ولما استعرت فيه الحروب بين 1970 و1990، والآن إزاء التهديد للوجود المسيحيّ في الشرق.
تظهر هذه اللمحة التاريخيّة بعض خصائص الموارنة، وهم يتميّزون بتمسّكهم بالإيمان بالله، وبمحبّتهم للكنيسة الجامعة الكاثوليكيّة، وبانفتاحهم على جميع الثقافات، وبتعاونهم مع مختلف الشعوب، وبطاقاتهم الكبرى على العمل والانتاج المثمر. أهّلتهم هذه الخصال أن يستقرّوا في أقطار الدنيا كافّة. وأن يتفاعلوا إلى أقصى الدرجات مع ثقافات بيئتهم ومحيطهم كما يشير هذا الدليل، وعيونهم تشخص شطر المدينة الثابتة.
المراجع